فيوليت أبو جلد: الشعر محاولة يائسة لترميم الكون


*آرام


-1- بعيدا عن البدايات التقليدية ، كيف تقدم فيوليت أبو الجلد نفسها ؟
في غرفتي غرفة أخرى ، أنا سرب نساء وحيدات ، أجلس حولي ، ألتفّ عليّ، يخونني لسان حالي، أراقبني بهدوء ، أتفكك ، أتحلل ، أصير هذا النص، الكلام غرفة أخرى .
أنا مزاج في شاعرة . 
-2- نبذة عن البدايات ، وهج الحبر الأول، شغف الكتابة الأولى، متى بدأت و كيف وما الذي أودى بكِ إلى الشعر تحديداً؟
ولدت في عائلة مؤلفة من ثلاثة أشقاء بلا أخت أستعير منها الدفء والفرح ، كنت أبكي غيابها حتى صنعت من خيالي فتاة تكبرني ببضع سنوات ، أقفل بابي وألعب معها وأقرأ لها “قصص المساء” وأكلمها طويلا ، كانت أحيانا تخرج من دوني الى حفلات افتراضية هكذا ماتت في الحرب الأهلية اللبنانية بقذيفة وقعت قرب بيتنا ، شاهدتها مع القتلى والجرحى على التلفاز حينها بكيت بحرقة وكتبت يومها أول نص عن الحرب والفقدان وعن الوحدة التي ما زالت بنضارة الفقد الأول وبطراوة تلك الطفلة التي غادرتني باكرا وقد كتبت ذات يوم في وقت لاحق : لا تقتلني الآن، أمس أخرجوا آخر رصاصة من ركبتي، أستطيع اليوم أن أركع لأقبّل الطفلة التي كنتُها وما كنتها، أستطيع اليوم أن أركض خلف مَن خرجوا وما خرجوا …مني، لا تقتلني الآن.
-3- ما الذي تغير في فيوليت أبو جلد، بعد خمسة دواوين ما الذي تغير على صعيد الكتابة، الرؤية، المشروع ؟ 
مع الوقت ، تتعمق التجربة الشعرية كما الحياتية ، كل ما حصل صنعني وأنا أصنع ما سيحصل بالكتابة . ألتذ بالاكتشاف وبالتقصي رغم كل هذه اللاجدوى ورغم الخذلان . الكتابة هي الضوء في آخر النفق ، الضوء الذي يؤدي الى نفق آخر ثم الى ضوء آخر . الرؤية ، المشروع! لا أدري ، فأنا أكتب لأني لا أفهم ما يجري ولأن ما يجري لا يفهمني . 
-4- كيف تتحدثين عن تجربتك الشعرية باختصار ، وما هي القصيدة التي تطمحين إلى كتابتها ؟ 
” النص الطاعن بلذة المعنى ” هكذا عنون الشاعر والناقد العراقي عبد الكريم كاظم مقاله النقدي عن تجربتي ، أظن بأن الآخرين أجدر بهذا الحديث ، لي هذا الغرق الجميل وهذا الموت الأنيق في آخر كل قصيدة . عن أي طموح يا صديقي تتكلم ؟ أنا أكثر حزنا من أن أبالي وأكثر شاعرية من أن أفكر بغد سيصير أمسا .
-5-من هم الشعراء الأكثر تأثيرا في تجربتك ، وما هو موقفك من فكرة الأبوة في الشعر ؟
دائما يُسأل الشاعر عن الشعراء الأكثر تأثيرا ولا يُسأل عن أكثر الموسيقيين أو الروائيين أو المخرجين أو الممثلين أو العصافير أو الرعاة أو الشجر . أليس الشعر في كل هؤلاء وفي غيرهم ؟ كلهم أثروا بي ولم يؤثر بي أحد . كلهم أحببتهم ثم نسيتهم في أول رجل أحببته ومضيت الى حيث يشاء الحب والى حيث تذهب الأغاني . لا أريد أن أقتل الأب ولا أريد أن أحييه ، ولا أريد أن أكون أما . أنا العشيقة السرية للشعر ، أنا مشتهى نصي . 
-6- ماهي القصيدة بالنسبة لك، ومن هو الشاعر ، وما هو الشعر ؟
القصيدةُ محرقتنا نحن الوحوش الكاسرة نحرسُ باب المجاز بشراسة. الشاعر هو الجمرة والشعر محاولة يائسة لترميم الكون ، وهو كل هذا اللاانتماء الوحشي .
-7- ماذا تحدثينا عن عملك الأخير “أرافق المجانين إلى عقولهم” و كيف تقارنيه مثلا بـ”همس ممنوع” ؟ 
لا مقارنة طبعا ، فأنا كبرت عشرين سنة وعشرين حربا وعشرين خيبة وعشرين رقصة . عشرين مرة غنيت وعشرين مرة اختنقت بصوتي . عشرين مرة فارقت وعشرين مرة سامحت . كتابي الأخير يضم حبا كبيرا وحزنا أكبر . يتناوح بين الحسية والصوفية كرياح قلقة ، وبين المشهدية والتأمل كنت أنيقة ومترفة بالحزن ، عقدت شعري بالندم وبالهجران ملأت بيتي . 
-8- أتيتِ من عالم مشرقي مليء بالتابوهات والخطوط الحمراء ، ماذا فعلت لمجابهة ذلك في الحياة والكتابة ؟
أنا ابنة جونية، رفيقة الأغاني وجارة البحر ، ولدت في عائلة تحترم الانسان ولا تفرق بين رجل وامرأة ، لم يكن يوما اي شيء ممنوعا علي سوى ما يمس تقديري لذاتي . لا أحد ينفصل عن جسده حين يكتب ، الحسية العالية موجودة في بعض نصوصي فهي جزء لا يتجزأ من كيان انساني جميل فيه البراءة وفيه الشهوة وهو في كل حالاته إنساني القوة والضعف، متعال مرة ومنكسر مرات… واثق ومرتبك. أجمل ما يفعله الشعر بنا هو أنه يحررنا ، هو أنه يلون هذه الخطوط الحمراء بألف لون ولون .الكتابة ترجع الدين إلى سؤال بعد أن بات جوابا ، تحول الجسد الى أحجية بعد أن كان وسيلة إنجاب وتكاثر ، أنا أكتب لأنني أبحث لا لأنني أعرف.
-9- أين أنتِ من السجالات الشعرية حولا القصيدة الحديثة شكلا ومضمونا ، ما موقفك حيال لذلك؟
أنا أرافق المجانين الى عقولهم وسعيدة بلعبتي ، المجانين الذين لا يدخلون في سجالات بل يقتحمون النص ويشكلونه ويشكلون حالة جميلة ينشغل بها من لا يجيدها أو من لا طاقة له على تحمل نهرها المتدفق عكس مجراه ، أنا منذورة للغناء وللحب ومنشغلة بالرقص فوق النار لا حولها .
-10- نحن في عصر استسهال الكتابة إذا جاز التعبير، وصلنا إلى زمن صار فيه الشاعر يكتب دون أن يقرأ كما يعبر الشاعر محمد مظلوم ، حيث يقول عن هذا العصر: عصر الشاعر الملفق ، شعراء يكتفون بقراءة المجلات المنوعة والصحف اليومية وبعض الكتب الخفيفة. وطبعاً الآن نحن في عصر الفايسبوك ،هل ترين في ذلك خطرا على الشعر وعلى الثقافة؟ 
الثقافة أسلوب حياة متكامل ، ليست قراءة الكتب فحسب هي التي تجعل من الفرد مثقفا ولا شهاداته العليا ، الثقافة انفتاح على كل جديد ، هي الوعي الكامل بكل ما يدور حولنا والتفاعل معه . هي تحديدا كيفية هذا التفاعل ، الجمود موت . في كل زمن كان هناك شعراء لامعون وشعراء أقل جمالا أو هواة على هامش الشعر ، الفرق فقط الآن أننا بفضل الفايس بوك نقرأ ونرى كل شيء ، لكن وكما بعد كل زمن ، سيبقى الشعر شعرا وستبقى الثقافة عمقا جماليا ووجوديا . 
-11- هل صدمتك مواقف بعض الشعراء في السنوات الأخيرة لا سيما في خضم تغيرات كبيرة مست حياتنا على كافة الأصعدة؟
المعرفة المبكرة تقتل الطفولة ، وأظن أيضا أن الاقتراب من الشاعر والتواصل معه قتلت بنا دهشتنا به . أن لا يشبه الكاتب نصه! يا لفداحة الواقع ! أن يتشبث شاعر بسياسي ، أو برجل دين أو بمنصب! يا لحزن الشعر ! بعد كل ما يجري يصدمني أن الشعراء ما زالوا قادرين على المناقشة والمناورة واتخاذ المواقف مع أو ضد ، يصدمني أننا ما زلنا احياء وسط كل هذه القسوة . 
-12- نشهد تراجعا كبيرا لدور الثقافة والمثقفين ، وما هي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ 
الأدوار الكبرى اليوم يلعبها الإعلام السياسي ، والإعلام التجاري . الأول ليسيطر على العقول والثاني ليسيطر على الجيوب . وسط الاثنين يجد المثقف نفسه عاجزا ومستسلما أو متذمرا على صفحات التواصل الاجتماعي. زمن العظماء قد ولّى ولم يعد الكاتب مؤثرا في الجماعة كما كان سابقا ، لأنه ببساطة لم يعد هناك جماعة بل شلل وطوائف وتيارات حزبية وحتى ثقافية مزعومة .
-13- ماذا تقولين حيال بيروت و لبنان، لا سيما أنها شهدت و تشهد تحديات كبيرة، إلى أين يتجه لبنان بصورة عامة سياسياً و ثقافياً ؟
الحب كما قيل ، يحيا دائما على حافة الموت .وإنه أهون على الرجل أن يموت في سبيل الأنثى التي يحبها من أن يحيا في سبيلها. كذلك من يدّعون الوطنية في لبنان الآن وفي كل آن ، الجميع مستعد للموت للأسف ولا نجد من هو مستعد للحياة كما تليق بنا الحياة. الثقافة ، السياسة ، الاقتصاد … كل شيء معطل في لبنان سوى قدرة أبنائه الهائلة على التشبث بالحياة وبالضحك . ربما لأننا جميعا أبناء فيروز ، ننتظر معها قطارا وهميا ونشتري منها تذاكر الفرح ، هي القائلة : الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب الترين ( أي القطار ) . ها نحن معها نقف على سكة الحديد بانتظار بلد موعود عله يعود .
-14- كلمة أخيرة و مفتوحة للشاعرة فيوليت أبو جلد؟
أكتبُ كي تصير الكلمات قديمة ، كي يتكاثر القراصنة والغرقى والأشباح. أكتب لتليق غرفتي بهذا الغبار المتكدّس فوق أحلام يقظتي. لأعتذر من أعدائي ، لأعبر الشارع والمدينة والوطن من دون أن يدهسني القتلَة والقتلى. أكتب كي يخلّصني الخطأة وأخلص القديسين. كي أموت كل صرخة وأبعث كل أغنية. أكتب لأني أغار من الوديان ، لاني أخاف الجبال ، لأني لست الصخرة ولا الطائر ولا الصدى. لأني دائما وحدي لأني كسولة لأني منطوية على نفسكَ! أتمرّد لا يرحمني أحد ، أرجمهم ولا أخدش سواي ، أكتب لأني لا أفهم ما يجري ، لأن ما يجري لا يفهمني. لأني حائرة وقلقة وخائفة، لأني صغيرة على كل هذا الخذلان وكبيرة بما يكفي لأشيخ فوق نصّي وأذوي. 
_________
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *