البنيوية العربية.. منتهية الصلاحية


*محمد الأسعد

مع مطلع سبعينات القرن العشرين، بدأ عدد من النقاد العرب بتداول مصطلحات جديدة، مثل «البنية» و«النص» و«العلاقات الداخلية» و«رؤيا النص» و«الأنساق»..إلخ، وبدأت تظهر دراسات نقدية مطولة تبدأ بالحديث عن ألفاظ القصيدة وعن صورها المتميزة، والعلاقات بين الألفاظ والصور، وبين الصور والإيقاعات، في سرد لا يكاد ينتهي إلى شيء تقريباً، أو هكذا بدا الأمر للوهلة الأولى.

تلك كانت كما قيل، ويقال حالياً، المدرسة البنيوية في النقد، تمييزاً لها عما سبقها من مدارس نقدية، مثل مدرسة التحليل النفسي ومدرسة التحليل التاريخي ومدرسة التحليل التأريخي. ووفق أصحاب هذه المدرسة، يمكن تمييز عدد من الاختلافات بين تياراتها في معرض التنظير وإرساء الأسس النقدية. اختلافات تنبع، كما يبدو، من الخلفية الفكرية لكل ناقد على حدة.
أول هذه الاختلافات يتعلق بعمل الناقد، فهو في نظر «إلياس خوري» (1948- )، قراءة النص من الداخل «كغابة من اللغة والإشارات والدلالات». وهو في نظر «كمال أبو ديب» (1942- ) يتلخص في «اكتناهٍ للنص الأدبي» من دون أيّ موقف مسبق. ويتضمن هذا الاكتناهُ إدراكَ العلاقات الأساسية في النص، وكيف تجسّد هذه العلاقاتُ الرؤيا الكلّية التي يقدمها النصُّ في النهاية. ويرى «محمد بنيس» (1948- ) عملية قراءة النص أكثر وضوحاً، تبدأ بقراءة لغوية تفكّك النصَ وصولاً إلى الأجزاءِ والوحداتِ المكوِّنة له، وخاصة الأكثر دلالة، ثم يدمج الناقدُ هذه البنية الجزئية في بنيةٍ أكثر اتساعاً من الأولى بوساطة التركيب، تمهيداً للانتقال إلى البعد الاجتماعي للنصِّ، وكشف النواة الحقيقية له، أو الرؤيا بتعبير «أبو ديب».
أساس هذا الخلاف تمايزٌ في المنهج. فالاتجاهُ الأول يتطرف في تجريد النص من أي علاقة خارجية، اللهم إلا علاقته بعلم اللغة (الألسنية) بوصفهِ علماً ينصبّ على دراسة مادة النص اللغوي، والحجة هي أن النص عملٌ قائمٌ بذاته وله وجوده الخاص، وهذا الوجود ليس جاهزاً أو ثابتاً بل هو وجود سيّالٌ لأن العلاقة بين الكلمة كإشارة في النص الأدبي ودلالتها يمكن أن تتخذ أشكالاً متعددة. وعلى هذا فلا حدود لعمل الناقد، إذ يمكن أن يخرج بقراءات متعددة لنصٍ واحد.
ويكاد الاتجاه الثاني أن يكون أقل تطرفاً حين يربط «أبو ديب» بين الاكتناه وهدف الوصول إلى الرؤيا. الجوهري هنا أن هذه الرؤيا تنبثق من علاقات النص، ومن استضاءةِ الناقد، في اكتشافها، ببنية أوسع هي بنية الثقافة التي ظهر فيها النص. ويتضح هذا في دراسته لثلاث قصائد نُشرت في مجلة «فصول» القاهرية، حاول أن يخرج فيها من الدراسة اللغوية إلى دراسة الرؤيا كما تتجلى في أيديولوجية فئة أو طبقة.
الاتجاه الثالث هو الذي يحسم قضية عمل الناقد ومنهجه من دون غموض، الدراسة النقدية هنا تتكامل على صعيد ثلاثة مستويات؛ مستوى النص الداخلي، ثم مستوى الثقافة التي أنتج فيها، ثم مستوى البنية الاجتماعية المحيطة بإنتاجه. وهكذا تصبح القراءة النقدية أضواءً تنبثق من كل هذه المستويات، وتتشارك في تعميق بعضها بعضاً، لأن الوصول إلى الرؤية مشروطٌ بقدرة الناقد على الربط بين قوانين قراءة النص للواقع، وبين الواقع نفسه. 
الاختلاف الثاني بين أصحاب الاتجاهات البنيوية ذو علاقة بوظيفة النص. وهنا تتجلى تمايزات في غاية الأهمية والمعنى. فإذا استعرضنا وظيفة النص كما يراها «إلياس خوري»، نكتشف اضطراباً في التحديد. فهو يقول من جانب «إن الإبداع لا غاية له، إنه غاية نفسه.. الإبداع محاولة لالتقاط الحركة وتجسيدها في حركة، ولذا عندما تدرس نصاً إبداعياً فإنك تنتقد دون غاية فتكشف التركيب والفكر والثقافة دون هاجس توظيفهما أيديولوجياً»، ويقول من جانب آخر «إن النقد في أي مجتمع له دور اجتماعي، النقد حاجة اجتماعية تلعب دور الذاكر ة الأدبية». والتناقض واضحٌ بين الفكرتين.
كانت «وظيفة» النص، من أهم نقاط الخلاف بين المدارس النقدية، ومن هنا نجد أنه حتى داخل «البنيوية» ثمة اتجاهات مختلفة. ففي مقابل الاتجاه المضطرب، وغير القادر على تثبيت القدم تجاه الموقف من «الوظيفة»، يطرح اتجاهٌ آخر مضاد أن ضرورة النص الأدبي أو وظيفته تكمن في العلاقة التي تقوم بينه وبين الخارج، أي بينه وبين العالم الواقعي.
ومن الواضح أن الاتجاه الأول ينطلق من فلسفة خاصة معروفة لا تقيم وزناً للعلاقات الواقعية في دراسة الظواهر الفكرية، بينما ينطلق الثاني من فلسفة أخرى ترى الترابط التفاعلي الوثيق بين مجالات الحياة الفكرية والمادية. 
حجة أصحاب الاتجاه الأول أنه يمكن اكتشاف دلالة النص أو معناه عبر القوانين الخاصة لبنيته فقط. وهذه القوانين تزودنا بها العلوم اللغوية الحديثة بمختلف نظرياتها حول اللغة. ومن هنا يصبح النقد في الحقيقة بحثاً لغوياً يرصد ويحلل لغة النص بوصفها «انزياحاً» أو «انحرافاً» عن اللغة العامة، أو اللسان.
وحجة أصحاب الاتجاه الثاني هي أن دلالة النص الكاملة، مع الاعتراف بأهمية البحث اللغوي، لا تتوقف عند حدود العلاقة بين الكلمات وفق ما تكشف عنه علوم اللغة، ومنها علم المعاني (السيميوطيقا)، بل تتجاوز ذلك إلى العلاقة بين الكلمات وما تدل عليه في العالم الإنساني، أي في البنى الاجتماعية والتاريخية، ومن هنا تصبح للنقد وظيفة أيضاً، وظيفة حضارية، وليس مجرد حل لعبة كلمات متقاطعة. 
مما تقدم أعلاه يمكن الاستنتاج أن مدرسة النقد البنيوي العربية انتجت قراءات مختلفة، ولأهداف تكاد تكون متغايرة. فلماذا كان هذا التغاير؟
إذا كان بعض نقاد هذه المدرسة يرى أن التغاير يرجع إلى طبيعة النص نفسه كفاعلية لغوية تفقد الكلمة فيها دلالتها الثابتة، وتنقذف في فضاء من الدلالات المتغيرة والمتحولة، فإننا نرى رأياً مختلفاً، وهو أنه مهما كان من حدة هذا الانقذاف في فضاء اللا تعين واللا ثبات، فإن النص بعد كتابته يتوقف عند شكل معين، من ناحية الدلالة والإيقاع، ومن ناحية النظم النحوي، ومن ناحية الرؤية الكلية التي تنتظمه. ولا يمكن تصوّر أن نصاً من النصوص يمكن أن يظل قابلاً للا معرفة بشكل مطلق. ويتعلق الأمر هنا بأدوات الناقد ومستواه المعرفي، وتطور المناهج النقدية، والتطور الثقافي العام الذي يعيد قراءة ما كُتب في الماضي مجدّداً.
إذاً، مسألة ثبات أو تغير النص مسألة نسبية لا ترتبط به كموجود متحقق تم إنجازه، بل هي مرتبطة بمستوى المعرفة العام الذي تصله المجتمعات الإنسانية. وعلى هذا من الضروري البحث عن سبب اختلاف قراءات النقاد للنص الواحد، واختلاف منطلقات القراءة، في منطقة أخرى هي منطقة ثقافة الناقد نفسه.
وهنا نجد أنظارنا تتجه، في ظل الوضعية الثقافية العربية سواء كانت السابقة أو الراهنة، إلى سبب مهم يفسر الاختلاف بين منطلقات النقاد، وهو أن مدرسة النقد البنيوي العربية، وبقية المدارس الحديثة التي تعلم فيها أبرز النقاد العرب، هي نتاج ثقافي غربي. ويرجع معظم المتأثرين بالبنيوية من نقادنا العرب إلى فرعها الفرنسي تحديداً. 
هذا النتاج الثقافي الغربي، كما نعرف، ليس متجانساً، بل هو نتاج يحفل بالتنوعات والتناقضات بسبب داخلي/‏خارجي معاً يرجع إلى الصراعات الاجتماعية العميقة التي فعلت فعلها في الغرب، وإلى التيارات الوافدة على هذه المجتمعات، سواء كانت فلسفية أو دينية أو علمية. والبنيوية، كغيرها من الاتجاهات الفكرية الغربية، أصبحت محط تجاذب وتبنٍ بين فلسفات عدة، رغم أن منشأها الحديث كان منطلقه تأكيد الفكرة الفلسفية القائلة بأسبقية الماهية على الوجود، مقابل، أو على الضد من الفكرة الفلسفية القائلة بالتغير والفوات، وبأسبقية الوجود على الماهية التي هي نتاج صيرورة تاريخية. ووجدت البنيوية منطلقها في دراسة الأنظمة اللغوية، وبخاصة لدى السويسري «فرديناند دو سوسير» (1857- 1913)، المهتم بدراسة بنية اللغة التي تحتفظ بقوانين دائمة تصدر عنها الممارسة اللغوية، أو ممارسة الكلام. وحدّد «دو سوسير» اللغة بوصفها نظام إشارات ذات دلالات اعتباطية مصطلح عليها. وبحث الأنثروبولوجي الفرنسي «كلود ليفي ستروس» (1908- 2009) عن بنية أخرى مستفيداً من «دو سوسير»، هي بنية العقل الإنساني، وبحث آخرون عن بنى نفسية وعن بنى أسطورية.. وهكذا. 
وظهرت مدرسة النقد الأدبي الجديد (النقد البنيوي) حين دخل منهج البحث عن البنية وقوانينها الذاتية التي تحفظ وجودها في مجال النقد الأدبي. وشغلت هذه المدرسة الأوساط الفرنسية في أوائل ستينات القرن العشرين، وشارفت على نهايتها في العقد الستيني نفسه كما يرى البلغاري/‏الفرنسي «تزفيتان تودوروف» (1939- ). وحالياً أصبح التحليل البنيوي اتجاهاً ضمن اتجاهات عدة في النقد. ومن هنا، لم يكن ظهور الطبعة العربية متأخراً فقط، بما حمله هذا من آثار نجمت عن ملاحقة خيوط شمس آفلة، بل جاء بغرائب من سوء الفهم والتقدير، وهذا يحتاج إلى مقالة أخرى، وتفصيل أوسع.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *