عن الدين والفلسفة والحقيقة


نزار حسين راشد

خاص ( ثقافات )

أثناء إقامتي في الهند للدراسة،والّتي امتدت سنوات،كانت دائرة علاقاتي القريبة،تضُمّ نخبةً ثقافيّة واجتماعيّة،ممن يطلق عليهم زبدة المجتمع!
في بكور الشباب تلك ،لم تكن قد تبلورت لدي قناعات محدّدة حول الدين والسياسة والمجتمع،الأمر الّذي حداني لمراقبة سلوك الناس ومحاولة سبر قناعاتهم والطريقة الّتي يفهمون بها العالم من حولهم!
ربُّ الأسرة التي كنت أقيم معها،كضيفٍ دافعٍ للأجر،وهو مصطلح انجليزي،يطلق على المستأجر الّذي يشارك الأسرة في الوجبات،أو المطعم والمشرب والترفيه ،بالإضافة إلى المنامة،أقول رب هذه الأسرة كان أستاذاً للفيزياء النوويّة،في الجامعة الّتي كنت أدْرُسُ فيها!
هذا المضيف ،كان يستيقظُ باكراً،ليحرق البخّور،أمام تمثالٍ ،مُنصّبٍ،على رف،داخل حجرة صغيرة!
بالنسبة لي كان هذا أمراً عجيباً،لقد أيقظ ذلك في دخيلتي المسلمة،والّتي ظلّت نائمة حتّى ذلك الحين،كُلّ أصوات الإحتجاج القاسية،ضدّ الوثنيّة،وكنت على وشك أن أهجم عليه بأسئلتي الإستنكاريّة ،من مثل:كيف يتّفق ذلك مع عقليّتك العلميّة؟!أو من مثل :كيف تصدّق أنّ صنماً يمكن أن ينفع أو يضُرّ؟!
ولكنّ حصافة اللحظة الأخيرة،جعلتني أتوجه إلى ابنه بالسؤال:فيما إذا كان ذلك سيغضبه؟
قال لي لا تفعل لانّه سيشعر بالإهانة!
وهكذا نقلتُ تساؤلاتي إلى صديقي الدكتور بريدج،الّذي يشاركني الإعجاب بمسرح برناردشو،وخاصّةً:الإنسان والإنسان الخارق،والعودة إلى ميتوشالح،وينغمس معي في نقاشٍ طويل حول المغازي الخفيّة والأبعاد العميقة،لهاتين المسرحيّتين!
توجّهت بالسؤال إلى صديقي بريدج:
-ما هوالدّين؟ولماذا يعكف رجلٌ مثل الدكتور برشاد على عبادة صنم بكل الجدّية والإخلاص؟
-بالنّسبة للدين فهو اجتهادٌ بشري لتفسير العالم من ناحية وتنظيم الحياة البشريّة من ناحيةٍ أخرى،أي البعدين الذّهني والإجتماعي!
عزيزي بريدج:لو كان الأمر كما تقول،لماذا لم تصبح الفلسفة ديناً أويصبح العلم ديناَ؟ولماذا بقي العلم علماً والفلسفة فلسفة،وبقي الدين ديناً؟
ويتمهل صديقي بريدج قبل أن يسترسل:
-هل رأيت أولئك السحرة الذين يعالجون المرضى؟إنّهم يتعاملون مع ذلك الجانب الغامض في الكون،وفي الحياة البشريّة،وفضلاً عن ذلك يسجّلون نجاحات!المرضى يشفون والبشر يتوحدون وتتساوق جهودهم في مجرى واحد،وهذا ما يحفظ تماسك المجتمعات،وإلا فكيف تفسّر اختلاف الأديان،وتشابه آثارها الإجتماعيّة!
في الحقيقة لم يشف كلام صديقي بريدج غليلي،ولم يروِ لهفتي للمعرفة،فقرّرتُ أن أقرأ الأديان ،كُلّ الأديان،وليذهب برناردشو وتخصُّصي في الأدب الإنجليزي،إلى حيثُ ألقت!
عكفت على قراءة الأديان،وبدأت بالهندوكية ثُمّ البوذيّة،ثم المسيحيّة واليهودية،وتركتُ الإسلام إلى النهاية،لأنّه ديني بالطبع!فماذا وجدت؟
بالفعل هناك قواسم مشتركة بين الأديان،لا بل إن هناك قواسم مشتركةبين الدين والعلم والفلسفة،وإذن فإلى أين تسير البشريّة؟وأين تختبيء الحقيقة المطلقة!
ثمّ عكفت على قراءة القرآن وتفاسيره،متجاهلاً معرفتي المسبقة،وكأنّني أقرؤه لأوّل مرّة!
فماذا كان الفرق الّذي استطعت تحديده بسهولة،بين الإسلام والأديان الأخرى؟
لعلّ الفرق الّذي لا تخطؤه عين الباحث،لا بل تلتقطه فور الشروع في قراءة النص القرآني،هو تصدّي القرآن لمناقشة الأديان الأخرى وبحثها،تفنيدها وتمحيصها،وتمييز حقّها من باطلها!بينما الأديان الأخرى :السماوية وغير السماوية لم تعرض للإسلام بشيء،ولا يكفي بالطبع التأخُّر الزمني لتفسير تلك الظاهرة،لأن من طبيعة الأديان،كل الأديان،السعي لإبرازتفرّدها،وتوجيهها الخطاب إلى أتباعها بناء على هذا التفرُّد!
ليس الأديان فقط،ولكنّ القرآن يناقش،توجّهات الفكر الإنساني،ويركّز على الإلحادي المنكر منها بالذات،أو ما يعرف منها بالدهري والزمني ويذكر فلسفتها ومقولاتها”إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر”،لا بل يسخر منها ويقيم عليها الحجة،وهو ما لم تفعله الأديان الأخرى ولا حتّى السماوية،ووهذه وجّهت جهودها لدحض الوثنيّة فقط!
وهذا ما يجعل الإسلام ديناً شموليّاً وإلهيّاً بامتياز،إلهيّاً بمعنى أنه يحيلك إلى الله مباشرة،ويجعل الدين أزليّاً واحداً صادراً عن ذات الله،والأنبياء حملة رسالة ومبلّغين!
لقد أعجبني هذا البعد الكوني،والخطاب المباشر للإنسان اي إنسان،أي لعقله وفطرته في كلّ زمان ومكان!
ولأقيم الدليل على نظريّتي،اردت أن أرى الإسلام في عيون الآخرين،غير المسلمين بالطبع!
ولمحبّتي لبرناردشو،أردت أن أعرف موقفه هو بالذات من الإسلام،وكانت مقولته الدارجة معروفة بالنسبة إلي”لو كان محمد بيننا لاستطاع حل مشاكل العالم وهو يشرب فنجاناً من القهوة”
بالنسبة لي كان ذلك صيغة إعجاب ليست ذات دلالة كبيرة،ولكن حين قادني البحث إلى مقولة اخرى”لقد كتب محمد القرآن في حالة انفتاح ذهني على الحقيقة المطلقة”!
هذا القول أدهشني فتوقّفت عنده،وبحثت عن موازياتٍ له،في أقوال آخرين،وعرّجت على تولستوي،وبوشكين،وكل الكبار الذين أعجبوا بالإسلام حتى أشيع عنهم أنّهم اعتنقوه!
ولم أطمئن إلا حين عثرت لدى مفكّرٍ مسلم على تعليق حول مقولة برناردشو،ولعلّه سيّد قطب أو أخوه محمد هو الذي قال،الإنفتاح الكلي على الحقيقة المطلقة،هي تسمية أخرى للوحي،وإلا فما يكون الوحي إذن؟وما الحقيقة المطلقة أو الحق المطلق سوى الله سبحانه وتعالى،ومن أسمائه”الحق”،أليس في ذلك دلالة؟!
وهكذا اعتنقت الإسلام من بعد وأخلصت في اعتناقه،بعد أن ولدت فيه!

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *