*الحسن أسويق
( ثقافات )
” يوما ما سيكون كل شيء على ما يرام؛ ذاك هو أملنا.
كل شيء الآن على ما يرام؛ ذاك هو الوهم”.
فولتير.
من بين الزلازل العديدة التي اهتزت لضرباتها الكرة الأرضية لم يشتهر منها زلزال قدر اشتهار الزلزال الذي ضرب لشبونة البرتغالية في الفاتح من نوفمبر 1755، والذي خلف، إلى جانب الخسائر المادية التي لا يسعها الحصر، ما بين 35 و 50 ألف قتيل.
إنه الزلزال الذي تجاوزت آثاره المفجعة المواد والأبدان إلى آثار صادمة على الضمائر والأذهان، وامتدت تداعياته نحو المستويات التيولوجية والفلسفية ولم تنحصر في المستويات السياسية والاجتماعية المباشرة الآنية. لقد أحدثت هذه الكارثة الطبيعية، التي نشأ على إثرها علم الزلازل، رجة في الأوساط الفكرية والحساسية الفلسفية في عصر الأنوار إذ أعادت إلى الواجهة مشكلة الشر في العالم بين المتدينين والملحدين، وبين تيار المتفائلين وتيار المتشائمين.
حدث الزلزال ومشكلة الشر
تمثل الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية، عند أهل القلم بمختلف مشاربهم، منذ العصور القديمة، مظهرا من مظاهر وجود الشر والألم في العالم ، ومشكلة نظرية محيرة أفرزت محاولات عدة لتفسيرها.
وفي العصر الوسيط الاسلامي والمسيحي كان للفقهاء والمتكلمين والفلاسفة إسهام مهم في تناول اشكالية الشر والعناية الالهية انطلاقا من السؤال: كيف يكون الله جوادا عادلا ويخلق كل هذه القبائح والشرور والمضار والآلام في العالم الذي سمي كذلك لأنه علامة من علامات وجوده؟.
توزعت إجابات المسلمين بين المنظور الفقهي كما عبر عنه الامام السيوطي في مصنفه “كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة” حيث يربط الزلازل بالأمور الشرعية وما يستحب فعله من الوعظ والصلاة والتقرب بوجوه البر؛ والمقاربة الكلامية كما عبر عنها مختلف الفرق الكلامية؛ والمقاربة الفلسفية كما عبر عنها الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا .
غير أن أشهر النظريات بهذا الشأن نظرية الأصلح المعتزلية ونظرية أفضل العوالم الممكنة الغزالية.
كما أن للتيولوجيا والفلسفة المسيحيتين مساهمة مهمة في الموضوع من خلال ما عبر عنه ، بشكل خاص، كل من القديس أغسطين والقديس طوما الاكويني.
وسواء تعلق الأمر بأولئك أو بهؤلاء، فقد اتبعوا في تبريرهم لوجود الشر مسالك حرصوا من خلالها على تبرئة الله كليا من إرادته والتخطيط له والمساعدة على خلقه عامدين إلى تبرير الشر الذي ليس إلا عرضا بما يتضمنه من خير بما هوجوهر، مرتقين بالفكرة إلى مرتبة الحقيقة الأنطولوجية ، وضرورة من ضرورات الطبيعة التي لا تصنع باطلا.
إنها المشكلة التي امتدت إلى الفلسفة الحديث خاصة مع الفيلسوفين كانط و ليبنتس في كتابه الشهير “تيوديسيا”، والفلسفة المعاصرة مع تيودور أدورنو بول ريكور.
زلزال لشبونة بين تيار المتفائلين وتيار المتشائمين: فولتير ضد ليبنتس وروسو
كان للحادث تأثير قوي في العديد من المفكرين الأوروبيين في عصر الأنوار خاصة المفكرين الموسوعيين بفرنسا التي كانت في ذلك التاريخ مركز الفكر العقلاني، ومن تجليات ذلك التأثير الجدال الحاد بين فولتير وروسو.
بعد مضي سنة على الحادث المفجع (عام 1756)، كتب فولتير قصيدته الشهيرة: “قصيدة حول فاجعة لشبونة” مذيلة بعنوان فرعي : “نظر في فرضية كل شيء على ما يرام” عبر فيها عن نقده اللاذع للنزعة التفاؤلية ونظرية أفضل العوالم الممكنة كما بلورها ليبنتس متأثرا ب”بوب” صاحب “مقال حول الإنسان” وربما بالغزالي أيضا، رافضا ومستنكرا لفكرة الغضب الالهي راسما بذلك لوحة قاتمة مغرقة في النزعة التشاؤمية مستعملا قاموسا يغرف من الخطاب التراجيدي – الأبوكاليبتيكي.
في رده المباشرعلى فولتير كتب روسو “رسالة حول العناية الالهية” نشرت في نفس السنة التي نشرت فيها قصيدة فولتير . وفيها دفاع عن النزعة التفاؤلية التي يتقاسمها مع بوب وليبنتس، ودفاع عن الفعل الالهي السليم بحجة أن مخاسر الزلزال من مسؤولية الانسان . وهي الرسالة التي لم يجب عنها فولتير إلا بعد مضي ثلاث سنوات في روايته “كونديد أةو النزعة التفاؤلية”” عام 1759 .
في نظر روسو أن المخاسر كان من الممكن أن لا تكون من الفداحة والحدة لو أن الناس لم يتكدسوا في بنايات متجاورة وفي أماكن ضيقة ضدا على النواميس الطبيعية . كما أن الزلزال عموما لا يمثل إلا الشر على الأقل في مقابل الخير الذي على الأكثر.
مقاطع مترجمة عن الأصل الفرنسي من “قصيدة حول فاجعة لشبونة” لفولتير
يجانب الفلاسفة الصواب حين يزعمون أن “كل شيء على ما يرام”،
إهرعوا لتتأملوا: هذه الأطلال الرهيبة ،
و الأنقاض والخرق والرماد الحزين،
وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم .
…….
…….
هل ستقولون، عند رؤية هذا الركام من الضحايا:
“إن الله ينتقم ، وأن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم”؟
أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال
الملتصقة أفواههم بالأثداء المسحوقة والدامية لأمهاتهم؟
هل بلشبونة، التي لم يبق لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟
لشبونة منكوبة ، وفي باريس تقام حفلات الرقص.
ــــــــــــــ
تنويه: كتبت هذه السطور بمناسبة مرور عشر سنوات على زلزال الحسيمة (24 فبراير 2004). وإذا كان من المفيد إحياء هذه الذكرى الأليمة للاعتبار واستخلاص الدروس، فمن الأفيد أن يكون ذلك من أجل أن نجعل من هذا الحدث مادة تربوية وأفقا للتفكير.