أساطير الآخِرين


قراءة: ناصر اليونس


خاص ( ثقافات )

قراءة في كتاب أساطير الآخِرين لياسين الحاج صالح


رغم العدد الكبير للدراسات والأبحاث والمقالات التي تناولت الإسلام وخاصة الجانب السياسي منه وعلاقته بالدولة ومفهوم الدولة نفسه في الإسلام، والصراع بين دعاة الحاكمية الشعبية الديموقراطية أنصار دولة الدستور والقانون الوضعي والمؤسسات من طرف، والحاكمية الإلهية والدولة الثيوقراطية من طرف آخر، ما الذي استطاع أن يضيفه الحاج صالح في جو الاستعصاء الحداثي في عالمنا الإسلامي واحتقانه السياسي والاجتماعي؟

ربما علينا منذ البداية أن لا نطلب الكثير من كتاب واحد وكاتب واحد، فهي بالأصل إشكالية ومشروع ليس دولة، بل دول وشعوب ما تزال تعيش ازدواجية وجودية حداثية استهلاكية ظاهرية من جانب ومستلبة للماضي تجد فيه مشاكلها وحلولها المفترضة وحاضرها ومستقبلها من جانب آخر.

ربما لا يسعنا المقال للإيجاز بما احتوته سطور الكتب لكن يمكن تسليط الضوء على نقاط برأينا تحمل جوهر النص وتلامس صميمه.

يعتمد الحاج صالح في كتابه على نماذج محددة في الحديث عن فقهاء الدين منهم السيد قطب وحسن البنا، وخص بكلامه الشيخ يوسف القرضاوي، وهذا ما ذكرنا في كتاب سابق لعبد الرزاق عيد 2003 – سدنة هياكل الوهم – نقد العقل الفقهي البوطي نموذجاً في الجزء الأول، والقرضاوي نموذجاً في جزئه الثاني، ومع أن الدكتور عيد كان مركزاً على آلية العمل للعقل الفقهي وأدواته ومواضيعه، فهنا نجد عند الحاج صالح الحديث في العموميات والأمور الرئيسية، فقد بدأ بتعريف الدين واختصاصه وحدوده، وخاصة مع الدعاوات الرائجة هذه الأيام لاستحضار الدين الإسلامي الحقيقي، وهو بتوصيف الحاج صالح “لا يوجد إلا كمتخيل إيماني، كمشاركة عابرة للعصور في تجربة أصلية إلا أنه لا يدرك ذاته كمتخيل، بل ك ’علم’ ويقين…. ص 34.

أي بحاجة لمن يقدمه ويصوغه كنموذج عام وشامل لكل مناحي الحياة كما يريده الفقهاء، ومنهم حسن البنا، حيث يقول الإسلام بوصفه: “عبادة وقيادة وديناً ودولة وروحانية وعملاً لا ينفك أحدهما عن الآخر”.

وهنا المقصود خلط التاريخي بالديني بالسياسي بالتعبدي بالعقائدي، ويصبح الإسلام يشملها كلها، ويستدل الحاج صالح بقول القرضاوي نفسه في كتاب فقه الدولة في الإسلام “الدين في الحقيقة إنما هو جزء من الإسلام”، وفي سياق آخر قال القرضاوي: “هنالك خلط كبير بين ما هو إسلامي وما هو ديني، فكثيرون يحسبون أن كل ما هو إسلامي يكون دينياً، والواقع أن الإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين….”
إذن ما الإسلام؟ وكيف نستدل عليه؟ واعتماداً على أية مرجعية سوف تفسر لنا النص الذي يحتمل التأويل وخاصة القرآن الذي قال عنه الإمام على حمال أوجه؟

فهل نساق خلف القرضاوي ونستحضر النماذج السابقة أو “العصر الذهبي” للإسلام وخاصة في العهدين الأموي والعباسي ونعتبر أعمالهم العسكرية من صلب الإسلام ونسلم بالأدوات الفقهية التي أقرت الوراثة في الحكم والظلم والاضطهاد الممنهج الذي آلت إليه الخلافة في حينه، وتم تمريره تحت بند الجبرية الأشعرية التي تقول إن الخلفاء وسلطتهم أتت كمشيئة الله!؟

فمن الجهة المخولة بالحكم؟ أو أية مدرسة أو مذهب أو تمثل الإسلام؟
بات الإسلام بحسب تعابير الحاج صالح: “ليس كتلة واحدة، بل هو مختلف ومتنازع عليه وتم تجذير هذا النزاع منذ القرن الرابع الهجري”.

“إن تاريخية الدين هي حليف مبدئي للإصلاح الديني والعلمانية، منظوراً إليهما كعمليات تاريخية صراعية لا كأيديولوجيات وليس العكس. وهي التي تفتح الباب على طرح عملي للمشكلة بدل الطرح الإقناعي السائد الذي ينافس الإسلاميين على الإسلام منطق الأيديولوجيا وهو منطق لا تاريخي بالضرورة، وهو ما يشوش الأمر، ويتصور أن الدين يتطوع من تلقاء نفسه لإصلاح ذاته”…49

المعتزلة هم أول من قال بخلق القرآن، وأنه أنزل وخلق بفترة النبوة، أي بداية ومدخل لتاريخية القرآن، وهي نظرة أقرب إلى العلمانية. 

“أحد أسباب هزيمة المعتزلة أن، تفكيرهم يتعارض مع حاجة الأمة إلى التشريف أو تقديس نفسها، والاختصاص بالله….. فلا يوفر ذلك التماهي الحار الذي يطلبه عموم المؤمنون، إله المعتزلة بعيد لا يُناجى ولا ينتسب له أو يتماهى به”.

أغلب الحركات الإصلاحية والعقلانية منها كالمعتزلة باءت بالفشل في التاريخ الإسلامي، وكان دائماً النصر للتيارات المتطرفة الأكثر انغلاقاً على نفسها التي تجاهر ليلاً نهاراً بـ”لا” لكل العالم بقيمه وحداثته، أما اليوم باتت الحداثة تطرق كل باب ولا يستطيع المسلم بحسب الحاج صالح “أن يعترض على الحداثة، أو أن يشكك في عتادها، وهذا ضروري جداً إلا بعدما ينخرط فيها فيسهم في إنتاجها. وفي تفكيكها أيضاً لا بد للإسلام أن يتصالح مع الحدث، كي يستطيع أن يصارع الحداثة، فإن انغلق دونها، ارتد رفضه لها إلى رفض سلبي لا يؤثر عليها ولا يمكنه هو من الدفاع عن نفسه في وجه غزوها الكاسح”… ص77
وأمام هذا الرفض الإسلامي للحداثة وقول “لا” للعالم “ليس ثمة غير واحد من مآلين ممكنين منطقياً لـ”لا” الإسلامية للعالم، الأول هو تغير العالم ليطابق الإسلام والثاني هو تغير الإسلام ليطابق العالم” ص 129

وهنا يطرح الحاج صالح سؤال مهم ومباشر: هل العالم الحديث بهذه المثالية كي نغير الإسلام ليناسبه أم نغير العالم بالطريقة الإسلامية أي إفناء العالم وتدميره؟؟؟

ويجيب: هنالك حل ثالث اكتسبته التيارات الإسلامية في الجمع بين الـ”لا” للعالم على المستوى الأخلاقي والثقافي والقيمي والنفسي، ونعم على مستوى الحداثة الجهازية: الأدوات والتكنولوجيا وأجهزة الحكم. إن أسامة بن لادن هو ابن الحداثة الجهازية العربية وسليل فصامها الأصيل.

والمقصود هنا أن الـ”لا” الإسلامية تجاه العالم حين يرفض المسلمون الدخول في الحداثة بكل مجالاتها الأخلاقية والقيمية والاقتصادية باعتبار أن العالم الحديث بـ”نيوليبراليته البوشية متوحش، وقد برز أسامة بن لادن بالـ”لا” وقسم العالم بكل سهولة وقبول جماهيري لا بأس فيه أو ساكت عنه إلى فسطاطين؛ فسطاط الحق والخير وفسطاط الكفر والشر بالتوازي مع تقسيم بوش العالم إلى من معه ومن ضده.
ما يقوله الحاج صالح أنه يجب تحويل الـ”لا” الإسلامية إلى أساس للضمير والأخلاقية، أي التحول من نفي العالم الخارجي إلى تأسيس متجدد للعالم الداخلي….. فليس هنالك أخلاقية من دون “لا” أولية للعالم بظلمته واحتكاره وشركاته المسعورة.

ويرى الحاج صالح أن: “الإسلامية المعاصرة وثنية جوهرية، تعبد الإسلام بما هو حرف وأصل، ولا تكف عن تصليبه في جسم محدود ضيق من أوامر ونواهٍ وشعائر معزولة عن الثقافة” ص152، وهو تفسير تطبيقي لكلام القرضاوي بأن: الإسلام مستغنٍ بذاته عمن سواه.

وباتت قضايا تطبيق الشريعة والحدود والجهاد والعنف كلها من صميم الإسلام، ويفصل الحاج صالح بين الإسلام والعنف ولا ينسبه لصميم تعاليمه، بل يرده إلى ظروف المسلمين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية المعاصرة، وهنا يحق لنا التساؤل لماذا لا نرى جهاديين بوذيين أو انتحاريين من قبائل أفريقيا أو أستراليا رغم أنهم مستغرقون في الانعزال والتخلف والفقر والاضطهاد؟!

ما الهدف من إظهار صورة أحادية للإسلام وعدم نسب العنف الواضح والبين في تعاليمه هل سنقوم بتطبيق تعاليمه غير العنفية مثلاً؟ أم الأفضل أن نعيد قراءة الإسلام وفصل الديني التعبدي عن الاجتهادات والتأويلات والتشريعات؟

ثم ما هو العنف؟ هل فقط تفجير المحطات والملاعب والنوادي في أوروبا يعتبر عنفاً أم قطع يد وأرجل وصلب ورجم النساء المغتصبات، هذا بدوره ألا يعتبر عنفاً أيضاً؟
يحاول الحاج صالح في الأقسام الأخيرة من الكتاب أن يجد طرفاً مسؤولاً للحوار وأن يتحمل مسؤولية فتاواه واجتهاداته، لكن بداية الحل برأيه تبدأ في التمهيد وصناعة هذا المسؤول، وخاصة “أن ما نحن شهود له من تبعثر نقاط سلطة دينية في المجتمعات العربية، أشبه بالإقطاعيات الأوربية، والعدد الوفير من الأمراء الدينيين الذين يشبهون أمراء أوروبا الوسطية وملوكها وأباطرتها، والذين يحوز كل منهم سلطة مطلقة يسوغ وحده ضرورة مركزة السلطة الدينية ومأسستها ضماناً لاستقرار ووحدة التشريع”. ص189

“نريد حماية الدين من الدولة، بات يستلزم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حماية الدين من تبعثر السلطة الدينية…190

ويضيف أننا في حالة “تناثر ديني شديد وانتشار قطاع الطرق إلى الله على صورة مشايخ وأمراء دينيين ومفتين من كل نوع….. فما أباحته فتوى متساهلة، يمكن أن تصدر غداً فتوى أخرى تحرمه بمنتهى الصرامة….231

يبدو أن الحاج صالح كمن يريد أن يربي نموراً صغيرة في مكان عام ويريد من المارين أن يقدموا الطعام والشراب لهم وينتظر هؤلاء الهررة الصغار لتكبر وتأكل كل من حولها.
خطورة وجود مؤسسة دينية واحدة وخاصة أن أحكامها سيكون مجمعاً عليها ومسموعة وملزمة لكل المسلمين وستفوق خطورة أي حزب أيديولوجي فاشستي عرفه التاريخ، نفهم أن الحاج صالح يريد أن يجعل من المؤسسة مرجعية تاريخية تمكنها من تجاوز نفسها والجرأة على إحالة الغث والسمين من التراث الإسلامي للتقادم، وقدم في هذا المجال الكنيسة الكاثوليكية كنموذج والمرجعية الشيعية أيضاً.

لكن يحق لنا السؤال كيف نتفاءل بهذا الاقتراح ولم نجد للمأسسة الشيعية أي تراكم معرفي يذكر، فلا تجديد ولا تنوير، بل العكس تماماً ترى المرجعية شيعية متسترة على مستنقع الفساد الإداري للحكومات التي استولت عليها في العراق وإيران وعبر أيديولوجيا الغيبيات والخوارق الميتافيزيقية التي تناولها جورج طرابيشي بالتعداد والحصر، فبينما أنها كانت في المئات في أرشيف المرجعية بالقرن الرابع الهجري باتت الآن بالآلاف وهي تتضاعف.

والمأسسة السنية لن تتحول إلا لكيان موازٍ لتلك الشيعية، وسنصبح أمام سباق تشددي غيبي وصراع للخرافات لن ينتهي، بل سنستهلك طاقات شعوب المنطقة في سجالات طائفية سهلة الولوج في ذهنية أتباع الرعية المحظية، والكلام عن تراكم تاريخي وعن فرص العقلنة بأنها أكبر عند رجال الدين الذين يكونون ضمن مؤسسة دينية واحدة بحسب ماكس فيبر، فهذا إن صح فهو يحتاج لمئات السنين دون أية ضمانات بالنتائج المرجوة.

إن نص ياسين الحاج صالح يصب في إطاره الزماني والمكاني ويعيد طرح السؤال من جديد، وهي مسؤولية يتهرب منها أغلب المثقفين العرب لأنها تخدش الأعراف التقليدية، وخاصة أنها تتناول الإسلام كثقافة وحضارة متراكمة عمرها مئات السنين لا كمنظومة هيولية مقدسة لا ملامح أو شكل لها يجب التسليم بها كما هي، وهو نص يستوجب الوقوف مطولاً عنده والتجرؤ لا على فتح باب الحوار فقط، بل اتخاذ أحكام وقرارات جديدة بتنا بحاجة ماسة لها وخاصة ما يتعلق بالحاكمية والدولة والسلطة والدين. 




1- المشكلة – تشرذم الإتجار بالدين 
2- العنف والدين

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *