نشيد للبحر / خورخي لويس بورخيس


ترجمة: أحمد حميدة


خاص ( ثقافات )
كنت أمنّي النّفس بنشيد للبحر ، إيقاعاته متشامخة كصراخ الموج ؛
للبحر ، حين تلهبه الشّمس فتخال مياهه راية حمراء ؛
للبحر ، حين يقبِّلُ النّهود البكر للشّواطئ المذهّبة ، وهي تنتظر .. ظمأى ،
للبحر ، حين تزمجر حشوده ، و ترمي الرّياح بلعناتها ؛
حين يلتمع في مياهه القاسية القمر المُسْمَرِّ .. الدّامي ؛
للبحر ، حين تفرغ فيه الكأس القربانيّة للنّجوم حزنها الدّفين .
نزلت اليوم من أعلى الجبل إلى الوادي ، و من الوادي إلى البحر .
كانت الطّريق مديدة كقُبلة .
أشجار اللّوز كانت تلقي على الطّريق بخيوط مزرورقة من الظلّ .
و في نهاية الوادي صاحت الشّمس من على
الأطلال القرمزيّة ، في الغابة الشّاحبة الإخضرار :
الهاوية !
فيا أخي ! و يا أبي ! و يا محبوبتي …!
إنّي لألج الحديقة العجيبة و أسبح بعيدا 
عن الأرض .
تأتي الأمواج برذاذها المزركش و الرّخو ،
متفلّتة من الكارثة . نحو السّاحل ،
بذُراها الحمراء ، 
ببيوت هندسيّة الشّكل ، 
بنخيلها الضّئيل ،
الذي غذا مضحكا و شاحبا
كالذّكريات
الجامدة !
أنا معك يا بحر ! و جسدي موتّر كالقوس
يصارع عضلاتك الغضوبة .
أنت وحدك الموجود .
روحي تنبذ كلّ ماضيها .
كسماء قطبيّة تنفض ندف ثلجها 
الشّاردة !
آه ! إنّها للحظة امتلاء رائعة !
قبل أن أعرفك أيّها البحر الشّقيق ،
لطالما تسكّعت في دروب التّيه الزّرقاء
الموشّحة بأشرطة من الفوانيس
و عند تناصف اللّيل المقدّس ، لطالما نسجت أكاليل
من قبلات على شفاه موهوبة في 
صمت وقور ،
في إزهارٍ 
مدمّى ….
و لكنّني اليوم ، أهب للرّياح
كلّ هذه الأشياء التي طواها الماضي
طواها دون رجعة … فأنت وحدك الموجود .
قويّ و عارٍ . لا شيء غير هذا النّفسِ المنعش 
و هذه الأمواج ،
و الكؤوس القربانيّة اللاّزورديّة و سحرها .
(لقد حلمت بنشيد للبحر إيقاعاته متشامخة كصراخ الموج).
لا تزال تتملّكني الرّغبة في كتابة قصيد لك
يكون له إيقاع موجك الهادر
و نَفَسُك البدائيّ المالح ،
و جلجلة مراسي السّفن الثّملة
بالنّور و الجذام ،
و صراخ البحّارة ، و أنوار أصداء الحفر السّحيقة
حيث أياديك الرّشيقة و المتقشّفة 
لاتنفكّ تداعب الموتى …
نشيد
منمّش بصور حمراء وامضة !
أيّها البحر ! أيّتها الأسطورة ! أيتها الشّمس !
أيّتها الأعماق السّحيقة !
إنّي لا أعلم لماذا أحبّك . أعلم أنّنا هرمنا نحن الإثنين ؛
و بأنّنا نعرف بعضنا منذ دهور ، أنا و أنت ،
أعلم بأنّه في مياهك المهيبة و الضّاحكة
استعر
فجر الحياة ،
(في رماد مساء محموم كنت أنبض في ثديك للمرّة الأولى).
أيّها البحر المتلوّن، من أحشائك انبعثت.
مكبّلان و مترحّلان نحن الإثنين ؛
يحدونا ظمأ جامح للنّجوم ؛
نتردّد بين الأمل و خيبة الأمل ؛
بين النّور و الظّلمة ؛
نحن الاثنان، بشوقنا الرّحيب
نحن الاثنان، ببؤسنا المهيب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *