فيلم “هوجو” لمارتن سكروسيزي




مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )

تماهي الواقع مع التحريك: سحر سينمائي خالص!
مع دخول مخرج الروائع مارتين سكروسيزي لميدان أفلام البعد الثلاثي يدخل الفن السابع لمضمار جديد من الإبداع والتسلية الخلاقة، وخاصة أن شبيلبيرغ كان قد سبقه بإخراج تحفة “تانتان” التحريكية، يناقض سكروسيزي هنا شبيلبيرغ في كونه قد أخرج فيلماً روائياً تتماهى فيه الشخصيات الحقيقية مع شخصيات أفلام التحريك، بل وتتفوق عليها، من حيث مكونات الشخصية وحركاتها والماكياج والإضاءة وحتى مواقع التصوير الأخاذة. من بداية عمله السينمائي وهذا المخرج يسعى للكمال من حيث البعد الفني الدرامي، أو في الأداء والإضاءة وتحريك الكاميرا والصوت، ناهيك عن اختياره الموفق لنجوم وشخصيات أفلامه، وقد قاده ذلك بالفعل لإخراج بعض روائع سينما القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي (مثل أفلام: “سائق التاكسي والثور الهائج وعصابات نيويورك والراحلون”، وغيرها)، ولكنه مع هذه التحفة الأخيرة “هوجو” استطاع أن يحول السينما إلى سحر فني خارق، الفيلم هو عبارة عن دراما عائلية ورسالة محبة وإلهام، كما أنه محاولة اختراق وسبر للروابط ما بين السينما الكلاسيكية والسينما العصرية، تقودنا في رحلة عجائبية ممتعة من خلال عيني طفل فضولي خلاق! تعود بنا قصة الفيلم لعام 1930، وتتحدث عن يتيم يعيش حياة سرية غامضة بجانب محطة قطار في باريس، وعندما يواجه هوجو “ماكينة زمن معطلة” وشخصيات أخرى غامضة تتضمن فتاة يانعة ورجلاً هادئاً بارداً ومتحفظاً يدير متجر ألعاب، ينغمس عندئذٍ في مغامرة سحرية غامضة تضع كل أسراره على المحك! إنه الفيلم العائلي الأول لهذا المخرج الفذ، استطاع من خلاله (في اعتقادي) إحداث اختراق نوعي في نمط الأفلام الثلاثية الأبعاد (ثلاثة دي) بشكل يحبس الأنفاس، فهوجو هو فيلم يتحدث عن السينما، وعلى الرغم من جدية الطرح الفني فقد حافظ على الإثارة والتسلية الممتعة، وربما يقوده هذا الشريط للحصول على أوسكار أحسن فيلم أو أحسن مخرج. 

الفيلم مشتق أساساً من رواية شعبية ناجحة كتبها بريان سيلزنيك، وأغدق عليها المخرج شحنات عاطفية وشغف مما حولها لتحفة سينمائية نادرة. خلال الرحلة العجائبية لهوجو نلتقي مع شخصيات بشرية غامضة، منها ساشا بارون كوهين (مفتش المحطة—الشرير الكوميدي)ومؤرخ السينما الفضولي ميشيل شتالبرغ، ويقع سياق الأحداث ضمن العالم الميكانيكي الغامض للساعة العجيبة التي تظهر هنا وكأنها “شخصية سينمائية” محورية تقود الحدث، هكذا اندمجت هذه الشخصيات مع البيئة الباريسية في محطة القطارات الشهيرة ومع مكونات بصرية-صوتية مدهشة تخلب الألباب، أما حجر الزاوية الحيوي هنا فيتمثل في الظهور الحقيقي “للرجل اللعبة” العم جورج (حيث قام بالدور بشكل لافت الممثل القدير “سير بن كنغسلي”، البريطاني الهندي الأصل) مجسماً ماضيه الإبداعي، وقد أعطى تقمصه للدور شغفاً وبعداً عاطفياً مشحوناً بعبقرية تمثيلية نادرة (نفس الممثل الذي أبدع بتقديم شخصية غاندي في الفيلم الشهير)! يخلو هذا الفيلم من وجود “تيمة” على أفيش الفيلم كما في معظم الأفلام، ولكن التيمة الرئيسية (المجازية) تأتي خلسة على لسان كنغسلي: “إذا كنت تحتار من أين تأتي الأفلام، فهي تصنع هنا”! 

رحلة مثيرة لاكتشاف بدايات السينما في باريس “الساحرة”!
في إحدى المقابلات الصحفية أبدى سكورسيزي إعجابه وتأثره الشديد بالسينما الأوروبية العريقة، من هنا فقد أعجب بالرواية التي اختارت باريس لتكون مسرحاً لأحداث القصة التي تدور حول الشخصية الغامضة للمخرج الفرنسي الراحل جورج ميلييه، الذي يعتبر بحق من رواد السينما المرموقين، والذي بدأ حياته كساحر وصانع للدمى، وربما قصد من إقحام شخصية هذا السينمائي العتيق في سياق القصة للدلالة على امتنانه وتقديره لرواد السينما الأوروبية وعلى حنينه الرومانسي لهذه الفترة الذهبية من تاريخ السينما، حيث تقع الأحداث في ثلاثينيات القرن الماضي، وتدور القصة حول الطفل جو كابري (تقمص الشخصية ببراعة فائقة البريطاني أسا بترفيلد) والشيء اللافت في تصرفات وسلوك هذا الطفل اليافع البريء، فهو الفضول الممزوج بالمراوغة والدهاء وسعة الحيلة! وربما كان اختياره لسن الثانية عشرة مع وسامته وبهاء طلعته هو الذي حرك الأحداث بهذا القدر من الإيقاع الديناميكي اللاهث لسن مفصلية تجمع فضول الطفولة البريئة والروح المغامرة لسن المراهقة المضطربة، وكأن سكورزيزي رأى نفسه في هذا الطفل اليافع، معالجاً بشغف الإيقاع التمثيلي الحيوي لهذه الموهبة لكي يمزج خفية مكونات عبقريته السينمائية ضمن حنين جارف لبواكير التجارب السينمائية الرائدة، هذا المزيج ذاته هو الذي أطلق العنان لإبداعاته المميزة في السينما.

القصة تتحدث عن الطفل هوجو الذي كان يعيش مع والده خبير تصليح الساعات (قام بالدور جود لو) وذلك بعد وفاة والدته، وينغمس الطفل بهواية مشاهدة الأفلام السينمائية مركزاً على أفلام المخرج الفرنسي الشهير جورج ميلييه، وبعد وفاة والده التراجيدية نتيجة لحريق في أحد المتاحف يتولى عمه (الممثل كلود كابري) تربيته، حيث يقوم العم المدمن للكحول بتدريب هوجو على تصليح وصيانة الساعات في محطة القطار قبل أن يختفي بدوره من حياته! هكذا يجد هوجو نفسه محصوراً بالعيش في محطة القطار ودهاليزها الضيقة وساعاتها الميكانيكية، وحيث يلجأ لسرقة الطعام من حين لآخر بينما يطارده مفتش المحطة (الممثل البريطاني ساشا بارون كوهين)، ويتمكن بسعة حيلته ودهائه من الهروب، مركزًا جل اهتمامه على إحياء مشروع أبيه الراحل المتمثل في ترميم وإحياء إنسان آلي، في متابعة حثيثة لا تعرف الكلل واليأس على الرغم من ملاحقة جورج ميلييه واكتشافه لسره! ولكن انشغاله وصديقته لفك غموض “الروبوت الأوتوماتيكي” وإعادة تشغيله لا تقوده (كما كان يأمل للتواصل روحيًا مع قبر أبيه)، وإنما تقوده لكنز من الأفلام القديمة المنسية! وفي خضم هذه المطاردة الطريفة اللاهثة يلتقي بالصبية إيزابيل ذات الأربعة عشر ربيعاً (الممثلة كلو جريس مورتيز)، ويجذبها لهواية مشاهدة الأفلام السينمائية التي قمعت من قبل والدها بالتبني جورج ميلييه، وعندئذ يكتشف مخططاً لمشهد سينمائي قديم سبق وحدثه عنه والده، حيث يتبين أن هذا الفيلم المدهش هو من إخراج جورج ميلييه نفسه عندما كان ساحراً في بدايات حياته، وتنتهي هذه الحبكة السينمائية المتداخلة بقيام هوجو وإيزابيل بالعمل معاً على إحياء ذكريات الماضي العتيق للمخرج الأسطوري جورج ميلييه، في إيماءة واضحة للحنين الجارف لإنجازات بدايات السينما، وكأنه يوجه رسالة عشق نادرة للسينما الأوروبية العريقة التي يعتبر سكورسيزي نفسه امتداداً لها! ويقال إن سكورسيزي نفسه قد قابل في سبعينيات القرن الماضي المخرج الفرنسي القديم ميشييل بويل في حالة من “الإقصاء والنبذ والنسيان”، وربما عكس شخصيته هنا في استرجاعه السردي لمجد جورج ميلييه السينمائي الذي دمر معظمه! كما أن هناك لقطة يقحمها المخرج ضمن السياق تصور قطاراً قديماً يدخل لمحطة “مونتبارناس” الشهيرة، وهي من أوائل المشاهد التي أخرجها رواد السينما الأخوان “لوميير”، وقد تكون هذه المشاهد تحديداً مملة وغير مفهومة ولكنها ضرورية للسياق الفني. 

التفوق على شريط “آفاتار” لجيمس كاميرون!
باعتراف المخرج كاميرون صاحب الفيلم الأسطوري “آفاتار” فإن سكورسيزي قد تفوق عليه بهذا الشريط “الثلاثي الأبعاد”، ولكن الفرق يكمن هنا في تصدر عمل كاميرون لشباك التذاكر لفترة طويلة، مكتسحاً سوق السينما الأمريكية والعالمية ومتصدراً شباك التذاكر لفترة طويلة، في حين تراجع فيلم هوجو سريعاً من قائمة شباك التذاكر، حتى أن دار العرض في عمان قد استنكفت عن عرضه بعد الإعلان عنه! وربما يعزى السبب في اعتقادي الشخصي لبراءة القصة ولكونها موجهة للأطفال والعائلات ولخلوها من عناصر الإثارة والتشويق المجاني ولصعوبة فهم المغزى، كما أنه قد يعزى ربما لهبوط مستوى الذائقة السينمائية- الفنية، ولصعوبة فهم الرسالة التي يطرحها هذا الفيلم وأمثاله من التحف السينمائية (وقد ينطبق هذا أيضاً على أفلام مثل شجرة الحياة لترانس مالك والأحفاد لألكسندر بيين وهانا لجو رايت والفنان لميشيل هازنافيكيوس _وهي أيضاً ضمن نفس قائمة ترشيحات “الجولدن كلوب”)، والتي تعد أفلام مهرجانات ولكنها قد تجمع ما بين النجاح الشعبي والمستوى الفني الرفيع، ولكنها تفشل بالمقابل في تصدر شباك التذاكر تاركة المجال لكم كبير من أفلام الخيال العلمي والفانتازيا والمافيا والرعب والإثارة والمطاردة والكوميديا والدراما العادية الاجتماعية! هناك في هندسة الجودة مفهوم جديد-قديم يسمى “السيجما السادسة” (ويعني بالعربية الحيود السداسي)، أي إنتاج سلع وخدمات بالحد الأدنى من الأخطاء والأعطال، وهذا نفسه هو المفهوم الذي أدى تطبيقه لتفوق الدول الصناعية المتطورة واكتساح منتجاتها وخدماتها لكل بقاع المعمورة، وربما يعد هذا الفيلم تجسيداً سينمائياً لهذا المفهوم التقني من حيث تفوق وتكامل مكوناته الفنية والمؤثرات البصرية-السمعية والموسيقى التصويرية، إضافة للإخراج والتمثيل والإضاءة والديكور والحركة مما يجعله يتماهى بل ويتفوق على أفلام التحريك!

 تكمن قوة المشاهد “الثلاثية الأبعاد” في الدهشة التي تتملك المتفرج مما يجعله طرفاً مشاركاً في الحدث السينمائي، وخاصة عندما تخرج مكونات المشاهد السينمائية باتجاهك، كما تبدو وجوه الممثلين مشرقة بالعمق وطافحة بجمال التعبير! 

بقي أن أقول إنه على الرغم من التراجع التجاري النسبي للفيلم على قائمة شباك التذاكر، فقد تم اختياره ليتصدر قائمة ترشيحات “الجولدن كلوب” لأفضل أحد عشر فيلماً للعام 2011، والعمل الإبداعي السينمائي الخلاق لا ينحصر فقط في تناولنا لهموم الإنسان العادية (كما في معظم أفلام مهرجانات السينما للعالم الثالث، التي سمحت لمن هب ودب بعرض أعماله مهما كانت ضعيفة بحجة تناوله لهموم الإنسان!)، وإنما يشمل كل الأنماط التفاعلية-الدرامية للسلوك البشري، فالسينما كفن شامل هي مرآة الوجود البشري على وجه هذه البسيطة، وبواسطتها يحقق الإنسان وجوده الخلاق وكينونته، ويرقى بذائقته الفنية –السينمائية، مستمتعاً بوجوده وحتى بأوهامه اللذيذة وتسليته، بعيداً عن الانزواء والفوقية والزيف والكآبة. السينما في اعتقادي هي التي تعكس الحياة الإنسانية ببعدها الشمولي الإبداعي-المتجدد، وهي التي تربط ما بين الماضي والحاضر باتجاه المستقبل، وهذه هي الرسالة الخفية التي نجح “سكورسيزي” بتوصيلها باقتدار هنا، وهو في سن التاسعة والستين ما زال يخرج الأفلام بنفس شغف وحيوية أفلامه الأولى الرائعة، وكما قال أحد الحكماء “كم هو جميل أن تكون على قيد الحياة”!

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *