*بسمة النسور
في صباح اليوم الأخير من زيارتي المدينة، غبطت كل من ولد فيها ابناً شرعياً للجمال والدهشة. في إسطنبول، حيث أجواء غنية نقيصة للضجر والرتابة شديدة الخصوصية والاختلاف، فضاء من محض جمال وسحر ودهشة وغموض وفتنة: نوارس تلاحق، في مشهدٍ أخّاذ، القوارب السريعة، وهي تنهب البوسفور في جولات مكوكية، تنقل المتجولين بين القارتين، آسيا وأوروبا، اللتين تفصل بينهما برهة زمنية خاطفة، يكمن فيها السر كله. تلازم أسراب النوارس تلك القوارب، تزعق بإلحاحٍ كبير، لعل طفلاً ما يلقي لها قطعة خبز، تلتقطها ببراعة الخبير، قبل هبوطها إلى الماء، فتثير في النفوس حالة بهجةٍ، تفرضها مدينة فائقة الحيوية والصخب والتنوع والعراقة والحداثة والجدل.
انهمر المطر سخياً غزيراً مباغتاً، من دون فيضانات تذكر في قلب شارع الاستقلال الذي يؤمه، يومياً، بحسب إحصائياتٍ تركيةٍ، ما يقارب مليوني إنسان بين مواطنين أتراك وسياح ولاجئين. كنتُ، في ذلك الصباح الإسطنبولي المدهش، أذرع الشارع الشهير، في جولة من المشي السريع، علها تنعش القلب المثقل، وتبدّد ما علق فيه من أحزان، فكّرت بابتياع مظلةٍ من أحد الباعة المتجولين الذين يعوّلون كثيراً على عنصر المباغتة، ما يُضاعف فرص رزقهم القليل، غير أني غيّرت رأيي، نظراً لقرب موقع الفندق، حيث أقيم، بمحاذاة “تقسيم”، الساحة الأكثر شهرة في إسطنبول. وكذلك لعدم خبرتي في آليات استخدام المظلات، كونها ليست من مفردات ثقافتنا، على الرغم من مناخ بلادنا الماطر، ربما بسبب تيقن المواطن العربي من استحالة المضي في فعل المشي، في أثناء انهمار المطر الذي يبدو فعلاً انتحارياً، لا يخلو من حمق، في مدننا الحزينة قليلة الحظ، وهي التي تعلن النفير العام في حالاتٍ كهذه، فتعطل المؤسسات الحكومية أعمالها، وتغلق المدارس والجامعات أبوابها، حرصاً على سلامة الطلاب غير المؤهلين للتعاطي مع تقلبات الطقس!
قرّرت إكمال مشواري إلى الفندق، على الرغم من كل شيء، انصياعاً للمزاج الرومانسي الساذج الذي تفرضه الحالة المرتبطة بأغنية شهيرة، أحبها وتأثر بها العشاق من جماعة الستينيات، كلمات عذبة بلحن جميل بعنوان (المشي تحت المطر مع أفكار متعلقة بك). لا أعرف لماذا تبدو الكلمات بالإنجليزية أكثر إقناعاً وحميمية. المهم أنني أدركت حجم الورطة التي أوقعت نفسي بها مع اشتداد وتيرة المطر التي بدت غير قابلة للتوقف، في المدى المنظور. نظرت حولي بحثاً عن أحد باعة المظلات الذين رفضت عروضهم بكل إباء وشمم قبل دقائق! لم أعثر على أيٍّ منهم. كان خياراً غير واردٍ أن ألوذ بأحد المقاهي، بحالتي المؤسفة تلك، لاحتساء القهوة التركية الشهية ومراقبة الراكضين تحت مظلاتهم، ويرتدون معاطفهم البلاستكية الواقية من البلل. اقتربت مني فجأة سيدة تركية، تنم ملامحها عن طيبةٍ وشهامةٍ وكرم أخلاق وحس إنساني شديد الرهافة، مدّت مظلتها السوداء الشاسعة بصمتٍ نحوي، فاحتوتنا. بدون كلامٍ كثير، سوى عبارة استفهام مقتضبة، استنتجت أنها تسألني عن وجهتي. ذكرت لها اسم الفندق، وقد شبكت ذراعها بذراعي بتضامنٍ عجيب، شكرتها بما تيسر لي من إشاراتٍ ولغة جسدٍ، قبل أن تمضي في الطريق، من دون أن تدرك مدى أثر لمستها الفذة البليغة. أحسست أن روحي قادرةٌ، بل بحاجة للتواصل مع تلك السيدة الطيبة الحنون التي أغاثت لهفتي بشكلٍ أمومي، غير قابل للتأويل، كي أبثها مخاوفي وأشواقي وخيباتي وتطلعاتي وأحزاني كذلك. غابت السيدة النبيلة عن مرمى نظري، وقد منحتني، في لحظةٍ أقرب إلى الومضة، ذلك اليقين العميق بالفطرة الإنسانية، القائمة على الخير والحب والعطاء، قيماً مطلقةً عليا، تتجاوز الأمكنة والأزمان والهويات، ولن تعرف أبداً أنها منحت، من حيث لا تدري، امرأة غريبةً، في لحظةٍ عابرةٍ، دفقةً من الفرح الغامر الذي سوف يدوم طويلاً.
_________
*العربي الجديد