رجلٌ سيأتي.. أو ستأتي (مسرحية قصيرة)




طلال حمَّاد


خاص ( ثقافات )

” سبايا نحنُ في هذا الزمان الرخْوِ
سلّمنا الغُزاةُ إلى أهالينا”
محمود درويش

الرجل: لقد تأخّر. كان يجب أنْ يكون هنا لكي نبدأ سهرتنا الليلة.
المرأة: أيّة سهرة؟
لكنّ الرجل (وقد أخذ يمشي بشكلٍ مستقيمٍ من اليمين إلى اليسار بخطواتٍ غير ثابتة وكأنّه يخطو الخطوة ثمّ يتراجع عنها): اسمعي.. هذا كلامٌ قد لا يروق في عينيك..
(ثمّ وهو يعود باتّجاهها لتفاجئه بالمشي هي الأخرى لكن بشكلٍ دائريّ كأنّها تلتفّ من حوله): فما رأيُكِ….

(يتوقّف قليلاً. يلتفت من حوله.. ثمّ إلى الجمهور. يبتسم وهو يحكّ ذقنه الحليقة. يحاول أن يكون رقيقاً.. وهو يتابعها بعينيه): قصدي.. لو ذهبت الليلة عند والديك؟!
المرأة (بشيء من التحدّي لكن دون انفعال): ما هذا الذي تقوله يا عزيزي؟ ثمّ ما هو الكلام الذي لا يروق ـ فعلاً ـ في عينيّ؟ يا له من موقف.. ثوريّ جدّاً.. كنت أخالك ثوريّاً أنت أيضاً.. ثوريّاً جدّاً جدّاً؟
الرجل (هارباً إلى تبرير بدا باهتاً): أنا.. فكّرت.. لا أريدُك أنْ.. تتورّطي.. في مسائل..
المرأة (مقاطعة): هل تمزح؟ أيّة مسائل هذه؟
(بدت مستنكرة وبدا محرجاً): ألا تقل لي.. وأنا أقولُ لك؟
الرجل: حسناً..
(مرتبكاً): انظري..
المرأة: أنظر إلى ماذا؟ تفضَّل.. قل لي.. أنا لستُ عمياء.
الرجل (مشيراً إلى الجمهور): انظري إلى هؤلاء الناس.
المرأة: أراهم.. أراهم جيّداً.. فقط تكلّم.
(تقترب من الجمهور): قل.. ما الذي تريدني أنْ أراه.. في هؤلاء الناس؟
(تصمت. هو أيضاً صامت يفكّر).
(تتابع هادئة ورزينة): إنّهم هم أنفُسَهُم.. الذين يملؤون الشوارع.. والإدارات.. والمقاهي.. ودور السينما.. والمسارح.. ودور اللهو.. والمراكز التجارية.. وما إليه؟
(تبدأ متوترة وغير راضية): ويملؤون كروشهم بما لذّ لهم وطاب، وينتفخون كبالونات تسلية على قدر أنفاسهم وما ملكت أيديهم. ويتغاضون عن الدّم والأشلاء تغاضي من يلوذ بحائط كي لا تصيبه الشظايا، وينشغلون بما يضمن لهم سلامتهم عن الجراح التي تغزو جسد الوطن المباح.. والحرية المباعة.. في سوق التبعيّة.. والخنوع..
(تقترب منه. ينظر إليها مندهشاً) (ما تزال متوترة وحادّة): انظر أنت.. انظر بدورك.. ألا ترى كيف هم يجلسون واجمين، كأنّ على رؤوسهم الطير؟
الرجل (يتدخّل.. يبدو مرتبكاً): أرجوك.. ماذا تقولين؟ سيغضبون.. سيضربوننا بما لا أعرف ماذا.. وسيخرجون. سيخرجون وسيتركوننا وحدنا.. (يحاول أن يبتلع ريقه) ما الذي سنفعله وحدنا إذا هم خرجوا غاضبين؟
المرأة (في ثقة وقد أخذت تمشي فوق الخشبة مشية عسكريّ أثناء التدريب: قامة مشدودةٌ، جَسَدٌ متماسكٌ، إلخ): لا تخف سنجد ما سنفعلُهُ.. ثمّ.. بم سيضرّنا خروجهم؟ إذا هم خرجوا فإنّ غيرهم سيأتون.. وبالنسبة للسهرة.. فسنسهرُها.. معهم.. وبدونهم..
الرجل (مقاطعاً): ولكن…
المرأة (تتوقّف): ولكن ماذا؟
الرجل: هناك رجلٌ.. من بينهم.. رجلٌ واحدٌ.. يهمّنا.. يهمّنا كثيراً.. هذه الليلة!
المرأة (تقترب مسرعة من حافّة الخشبة.. تتفرّس في وجوه الرجال.. واحداً واحداً تساعدها في ذلك يدها مرّة مشيرةً ومرّةً مُزيحةً): إنّني لا أرى.. من بينهم.. رجلاً واحداً.. يختلف عن أخيه!
الرجل (معتدّاً): رجلٌ واحدٌ.. لا بدّ سيأتي بعد قليل.
المرأة (ملتفتة إليه): أهلاً.. أهلاً.. لا تقل لي.. بأنّه المهديّ؟
الرجل (محفّزاً بما قالته): إنّه رجُلٌ ككلّ الرجال.. 
المرأة (متمشية): ها هه..
الرجل (متابعاً): فيه ما فيهم..
(المرأة تتوقّف قبالته. تحدّجه بنظراتها كأنّها تسأله: وبعد).
الرجل: لكنّه.. (تنفرد أساريره في سعادة ويتابع كما لو أنّه يتلو عليها قصيدة) 
شَجْرَةُ زيتونٍ
غابَةُ نَخيلٍ
عاصِفَةٌ
ماءٌ
غُبارٌ
رَصاصٌ
جِراحٌ
كُلُّ شَيْءٍ
كُلُّ شَيْءْ
هُوَ الرَسولُ.. والرِسالَة
(المرأة تنصت في صمت وانتباه كأنّها مأخوذة بما يقول).
(الرجل يتحرّك صانعاً ربع دائرة ليصبح أيضاً في مواجهة الجمهور): وهُوَ الثائِرُ
والمُلاحَقُ
تَعْرِفُهُ السُجونُ
تَعْرِفُهُ الشَوارِعُ
تَعْرِفُهُ المَتاريسُ
والدَهاليزُ
والقُبورُ
يَعْرِفُهُ الدَّمُ
والعَذابُ
والكَأسُ
يَعْرِفُهُ الحُبَّ
لا يَكْرَهُ ما يَكْرَهُ إلاّ
لأنَّهُ مُحِبٌّ
يَكْرَهُ ما يُؤلِمُ الحُبَّ
وَيَقْتُلَه
تَعْرِفُهُ القصائِدَ
والخِطاباتِ
والمقالاتِ
تَعْرِفُهُ الصِيَغُ الثَورِيَّةُ
والتَسْوِياتُ
والهَزائِمُ الصَغيرَةُ
والكَبيرَةُ
والعُقودُ
والعُهودُ
والكُتُبُ..
ما ابْيَضَّ مِنْها
وَما اسْوَدّ
والكُتّابُ
والشُعَراءُ
والسّاسَةُ
والحُجّابُ
والنّاسُ
كُلُّ النّاسِ
(الرجل يُطرِقُ برأسِهِ)
(المرأة تمشي. تمُرُّ من أمامه وهي تلتفت إليه. تقف على بُعْد خطوات. تبدو كأنّها تفكّر).
(الرجل يُتابع كلامه): وكُلَّما قَتَلوهُ
(المرأة تستدير باتّجاهه).
الرجل: طَلَعَ لَهُمْ
مِنْ ثَنايا المَوْتِ
روحُهُ عَلى راحَتِهِ.. مِنْ جَديد
يَذْكُرُهُ العالَمُ
يَذْكُرُهُ
وَهْوَ يَذْكُرُ الرَصاصاتِ التي
تَطْلُعُ مِنْ جَسَدِه
كَأنَّها تَضْرِبُهُ
في وَجْهِهِ
لِكَيْ يَسْتَفيقَ
مِنْ غَفْلَتِه
أوْ.. مِنْ
خِدْعَتِه!
المرأة (وقد انتفضت حين رأته يميل على نفسه كمن أصابته رصاصة مباغتة في قلبه): عرفته..
(أطرقت بدورها برأسها. نفثت من صدرها أنفاساً بدت أنّها كانت حبيسة منذ زمن طويل).
وأتبعت: أعْرِفُهُ..
أعْرِفُهُ.. تَماماً
تماماً..
كما تَعْرِفُ الأرضُ حارِثَها
وَتَعْرِفُ أيْضاً غاصِبَها
أعْرِفُهُ..
أعْرِفُهُ.. تَماماً
كما يَعْرِفُ القَتيلُ
قاتِلَهُ
وسارِقَهُ
أعْرِفُهُ..
نَعَمْ.. أعْرِفُهُ.. مُعَلَّقاً
بَيْنَ السِياجِ والرَصاصَةِ
أعْرِفُهُ..
حَبْلُ المِشْنَقَةِ..
أقْرَبُ إليْهِ
مِنْ مَحَبَّتِنا
أعْرِفُهُ..
لَمْ يَبِعْ، واشْتَرى 
جُرْحَنا اليَوْمِيَّ
ناسِجاً لَنا
مَناديلَ فَرْحَتِنا
بِرِموشِ عَيْنَيْهِ
وَعِنْدما أطْبَقْنا عَلَيْهِ
أضْلُعَنا
أباحَتْهُ المَنافي
لِلْمَنافي
والعَذابْ
هُوَ الحُلْمُ الذي
تَقَنَّصَتْهُ السَنَواتُ التي
نَحْتَفي بِها
سَنَةَ إثْرَ سَنَة
وَهُوَ الفارِسُ الذي
مَزَّقَتْهُ
في لَحَظاتِ انْتِصاراتِهِ المُؤلِمَة
هَزائِمُنا المُفْجِعَة
وَلَمْ يَتَرَجَّلْ
يَجيئُنا كان
في كُلِّ وَقْتٍ
وفي كُلِ الأمْكِنَة
الصَعْبَةِ 
والمُمْكِنَة
وَنَحْنُ كُنّا
في انْشِغالِنا اليَوْمِيِّ
باليَوْمِيِّ
نَغْفَلُ عَنْهُ
ولا نَرى
أوْ نَرى
في غَشاشَةِ الدَمِ والمَنْفى
أنَّهُ كانَ..
بِلَحْمِهِ
يَشُقُّ لَنا
وَيُعَبِّدُهُ
طَريقَنا الجديدَ
والمُحاصَرِ
بالرَصاصِ
والدّمْ
أعْرِفُهُ..
فَكَيْفَ الآنَ.. سَأنْكِرُه؟
(وتمشي نحو حافّة الخشبة وتقفز)
الرجل (منادياً): تعالَيْ.. إلى أيْنَ أنْتِ ذاهبة؟ لقد كنت أمزح عندما قلت لك أن تذهبي عند والديك!
المرأة (تتوقف بعدما تقدّمت قليلاً بين الصفوف في القاعة وتستدير): لا عليك.. أنا ذاهِبَةٌ لأحضِرَه.. (وبعد لحظة صمت) أو أحضِرَها.. فكم من النساء.. مثلهنّ مثل الرجال.. في مثل هذه المواقف!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *