مهند النابلسي *
أن تصبح “جون مالكوفيتش”(1999)!
يبدو هذا الفيلم الكوميدي الممتع من إخراج “سبايك جونز” وكأنه أشبه برحلة سريعة ومسلية في عالم سريالي غير معهود، فهذا الفيلم المبتكر لا يسعى لإيصال أية رسائل واضحة، بل للغوص بتناقضات البشر والتركيز على نقاط ضعفهم تجاه الشهرة والكاريزما، وتبدو فكرته استباقية في حينه، ولكن الأمر قد استفحل حاليا، حيث نرصد الكثير من الممارسات الجامحة بطريقة التعامل مع النجوم المشهورين و”الكارزميين”، وقد ساعدت الدعايات ووسائل الميديا المختلفة والإنترنت والفيس بوك واليوتيوب بتضخيم هذه الظاهرة بل بالترويج لها.
تدور قصة هذا الفيلم الغريب حول سعي الناس لعشق الشهرة بواسطة دفع مبلغ محدد من المال، بغرض الدخول لعقل الممثل والمخرج المعروف “جون مالكوفيتش” ولمدة 15 دقيقة فقط، وذلك ربما استلهاما لمقولة مشهورة للفنان الأمريكي الراحل أندي وارهول”، تطرق فيها لعصر التلفاز وهيمنته على العقول.
يبدو بطل الفيلم كرايغ (جون كوساك) كشخص فاشل وعاجز عن تحقيق أحلامه وطموحاته بالعمل والحياة، كما أنه يعاني من الإحباط وعدم التفاهم في حياته الزوجية ، فهو متزوج من لوت (كاميرون دياز) التي تهتم بالحيوانات لدرجة “مرضية وسواسية” ، حيث أنها تنام بالقرب من شمبانزي (يبدو مرعوبا وكأنه يعمل بمحرك الدمى، ولا ندري هل هو حقيقي؟!).
ذات يوم يتم فيه قبول كرايغ للعمل كموظف إداري في شركة “ليستر كورب” التي تؤمّن للناس فرصة الدخول إلى عقل “جون مالكوفيتش” مقابل المال، ويكتشف كرايغ “مندهشا” أن جميع الناس “المعنيين بذلك” مخبولون، كما يكتشف أن الموظفة ماكسين (كاثرين كيينر)هي حبّ حياته الحقيقي، كما يكتشف “بالصدفة” خلف باب مكتبه نفقا غامضا يؤدي إلى الآلة التي تسمح بدخول عقل “مالكوفيتش”، حيث أعلن مؤخرا عن قيامه بتمثيل وإخراج فيلم “غرائبي” مع المخرج روبرت رودريغس ليتم وضعه بكبسولة للعرض بعد 100 عام.
مع تطور الأحداث باتجاه النهاية يصبح معظم الناس مقتنعين، أن مجرد “تحريك الدمى” هو فن راق وممتع، لمجرد أن شخصا مشهورا مثل “مالكوفيتش” يؤمن بذلك!، ثم تتعقد الامور بشكل متداخل مع تباين وتقاطع رغبات أبطال الفيلم، كما يسعي كرايغ إلى الحلول بشكل دائم في جسد “الممثل المشهور” سعيا لنيل إعجاب “ماكسين”، المعجبة بدورها بجون مالكوفيتش، والذي يسعى بدوره إلى الحلول في جسد “ماكسين” المثير جنسيا!.
لا أدري لما تم اختيار الممثل والمخرج “جون مالكوفيتش” للقيام بهذا الدور تحديدا، وهو ربما ليس الأكثر وسامة وتمتعا بالكاريزما “النجومية”، وربما لنظرات عينيه وقوة وغموض شخصيته، وربما لأنه يمثل بحق موسوعة سينمائية متكاملة ولكثرة شغفه بالسينما… وقد نجح المخرج (سبايك جونز) باختيار طاقم الممثلين الذين برعوا تماما بأداء أدوارهم الغريبة، وأقنعونا كمشاهدين بأن الغرائبية المشهدية تتماثل لحد بعيد مع “واقعية” الأحداث، مع نكهة “سريالية” جاذبة بل وممتعة، كما أبدع “شارلي كاوفمان” بكتابة سيناريو محكم انسيابي يشد لمتابعة الأحداث بلا ملل بالرغم من غرابتها وابتعادها عن المنطق الإنساني.
لو أردنا إسقاط فحوى أحداث هذا الفيلم على واقعنا البائس الراهن، لرأينا امثلة عديدة لحالات الانجذاب الجماهيري لنجوم وأبطال ومغنين وإعلاميين وسياسيين، وهذا لا يضر إن بقي ضمن الضوابط الإنسانية الطبيعية، ولكن يبدو الخطر الذي تواجهه مجتمعاتنا “ضعيفة الوعي” يبدو داهما، عندما يتعلق الأمر بالاستحواذ على عقول العامة والدهماء من قبل “النماذج الكابوسية” لأشخاص وقادة دمويين ودعاة تكفيريين وإقصائيين وأمراء حرب وشخصيات تراثية “تاريخية ودينية” مفصومة ومتوحدة، وربما “مرضى نفسيين” يتملكهم “جنون العظمة” الهيستري المغلف بالقدسية واحتكار الحق والصواب، من هنا تبدو رسالة هذا الفيلم ذات أهمية قصوى في عصرنا الراهن.