الصياغ: أترجم من ثقافة إلى أخرى.. لكنني في بلادي “غريب كصالح في ثمود”


حاورته : عزيزة علي*


 يوصف فايز الصيّاغ أحيانا بأنه “صائد الجوائز”، أو أنه، في أحيان أخرى، يحصل على “أول قطفة” في مواسم التكريم في مجال الترجمة في العالم العربي.
غير أنه يؤكد، على الدوام، أنه لم يخطط ذات يوم ليكون مترجما أو محررا منذ مولده ونشأته في الكرك التي أكمل فيها دراسته الثانوية، وتابع تعليمه الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت، وحصل فيها على شهادة بكالوريوس في علم الاجتماع، ودبلوم الأدبين العربي والإنجليزي، ثم نال الماجستير في علم الاجتماع الصناعي، والدكتوراه في علم الاجتماع الاقتصادي من جامعة تورنتو – كندا، التي تولى التدريس فيها كذلك بضع سنوات قبل عودته إلى الأردن مستشارا في مجال التنمية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وزميلا أول وباحثا أكاديميا في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، ومديرا لـ”مؤسسة ترجمان”. وقبل إصداره أكثر من عشرين مؤلفا بالعربية والإنكليزية بين موضوع ومترجم في الميادين الأكاديمية والبحثية والأدبية، بينها مجموعتان شعريتان.

نشر إنتاجه الشعري الأول في عدد من المجلات الأدبية العربية مثل “الآداب” و”شعر” في بيروت “و”المعرفة” في دمشق، و”الأفق الجديد” في القدس، و”أفكار” التي أسهم في تأسيسها والإشراف على تحريرها، وعمل مديرا للصحافة الأجنبية في وزارة الإعلام الأردنية، كما أسس وترأس الإذاعة الإنجليزية في قطر، وأسهم في تأسيس مجلة “الدوحة” الثقافية في قطر وتولى تحريرها. كما شارك في إصدار وتحرير مجلة “السجل” في عمان. وما يزال، من جملة مهمات أخرى، مستشارا ومحررا ومترجما لتقارير “التنمية الإنسانية العربية”، وتقارير “المعرفة العربية” السنوية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

أواخر الشهر الماضي، تم الإعلان عن فوز الصياغ بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر، عن ترجمته كتاب “عصر التطرفات” للمؤرخ العالمي إريك هوبْزْباومْ. وسبق للصياغ أن فاز قبل سنوات بجائزة الشيخ زايد الدولية المرموقة للترجمة (أبو ظبي) عن ترجمة “علم الاجتماع” لأنتوني غِدنْزْ، وبعدها بجائزة خادم الحرمين الشريفين الدولية البارزة للترجمة (السعودية)، عن ترجمة “عصر رأس المال” لإريك هوبزباوم، كذلك.

وفي الحوار التالي، تحاول الغد الإطلال على مشروع الترجمة عند الصياغ، وحال الترجمة في الأردن والبلاد العربية، إلى غيرها من القضايا.

• كيف ولدت الترجمة، و”ترجمان”، وكيف برز فايز الصياغ المترجم؟ 

لم تكن البدايات مقطوعة الصلة بترجمات سابقة. فقد أصدرت عدة ترجمات عربية من الإنجليزية وإليها. وذات يوم من العام 2013، وبعد انضمامي لمركز الدراسات الاستراتيجية، كنت مع مدير المركز الزميل (النائب النشط الآن) الدكتور مصطفى حمارنة، وأثرنا موضوع المراجع الجامعية المترجمة إلى العربية والمستويات المتدنية في بعضها. وإن هي إلا أيام حتى كان المشروع الجديد قد سجل تحت اسم “مؤسسة ترجمان” التي بدأت نشاطها من خلال ترجمة أمينة موثوقة مأذونة لأعمال ومؤلفات أجنبية جديدة، أو ذات قيم متجددة، في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية بوجه عام. وبدأنا الاتصالات مع الناشرين الأجانب لتأمين/ وشراء حقوق النشر ومع مترجمين وشركاء آخرين في بيروت. 

• وبعد ذلك؟

توالت، لحسن الحظ، سلسلة من المفاجآت السارة. قمت، بحكم الاختصاص، بترجمة الكتاب المرجعي “علم الاجتماع”، لعالم الاجتماع البريطاني العالمي المعاصر “أنطوني غدنز”، ولقي إقبالا ورواجا كاسحا في أوساط الطلبة الجامعيين والأكاديميين والقراء العاديين في البلاد العربية وطبع أكثر من مرة. وكانت المفاجأة الثانية هي فوزي بالجائزة المرموقة الأولى وهي “جائزة الشيخ زايد للكتاب المترجم” (أبو ظبي) في العام 2008. وتوالت المفاجآت حين منحت بعدها بسنة واحدة، العام 2009، تكريما مماثلا هو “جائزة خادم الحرمين الشريفين الدولية للترجمة” في دورتها الأولى عن ترجمتي لكتاب “عصر رأس المال” للمؤرخ البريطاني العالمي المعاصر “إريك هوبزباوم” (وكنت قد ترجمت له “عصر رأس المال” العام 2012).
غير أنني ترجمت مؤخرا “عصر التطرفات” (1120 صفحة)، وهو المجلد النهائي والأضخم مما يسمى “رباعية هوبزباوم) التي يغطي فيها تاريخ العالم الحديث، سياسيا، واجتماعيا وثقافيا منذ الثورتين الصناعية والفرنسية، وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين. وهذا هو الكتاب الذي نلت على ترجمته “جائزة حمد بن خليفة للترجمة والتفاهم الدولي” (قطر) في دورتها الأولى قبل أيام.

ولماذا “عصر التطرفات”، وما أهمية هذا الكتاب؟ 

في “عصر التطرُّفات”، يستكمل إريك هوبزباوم (توفي 2012) عرضه الموسوعي التحليلي لتاريخ العالم المعاصر. وهو يرى أن القرن العشرين “الوجيز”، حسب تعبيره، قد بدأ باندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والثورة الروسية (1917) وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى العام 1991، وتخلّلته الدكتاتوريات الهمجية في روسيا وألمانيا وإيطاليا وأقطار أخرى، والحربان العالميتان، وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وحروب الاستقلال والتحرر الوطني، ثم الحرب الباردة التي أعقبتها مرحلة الهيمنة الأميركية والصراعات الإقليمية. 
ويقول هوبزباوم في التصدير الخاص الذي خص به الترجمة العربية لـ”عصر التطرفات” إنه يرمي إلى وضع تاريخ القرن العشرين في متناول القراء الشباب، الذين لم تلامس تجربتهم وذكرياتهم تاريخ المراحل التي سبقت العام 1990. ويصدق ذلك، بصورة خاصة، على البلدان الإسلامية التي تتراوح فيها نسبة من هم دون الخامسة عشرة من العمر بين 30 و45 بالمائة من السكان. 
ويضيف هوبزباوم: “إن البريطانيين قد أدخلوا عنصراً إضافياً غير متوقع إلى المنطقة العام 1917 بإصدار “إعلان بلفور” الأخرق الذي وعد اليهود بـِ”وطن قومي” غير محدد الهوية في فلسطين. ومع أن بريطانيا وفرنسا اتفقتا على اقتسام الشرق الأوسط بينهما في اتفاقية سايكس-بيكو العام 1917 – فاستولى الفرنسيون على سورية ولبنان، والبريطانيون على بلاد ما بين النهرين، وفلسطين، وما كانوا يأملون في السيطرة عليه في شبه الجزيرة العربية – فإن الشرق الأوسط العربي ظل تحت الهيمنة البريطانية حتى خمسينيات القرن العشرين. وهكذا، خضع المسلمون بين الحربين، مباشرة أو على نحو غير مباشر، وربما للمرة الأولى في تاريخهم، لحكام غير مسلمين، في مستعمرات رسمية، أو محميات مستقلة ظاهرياً. وباختصار، فإن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أصبح في بؤرة السياسات الدولية، بفعل موقعه الاستراتيجي وثروته البترولية على حد سواء”.
ويخلص هوبزباوم في هذا التصدير إلى أن منطقة الشرق الأوسط “كانت، وستظل، مزعزعة من الوجهة الاجتماعية”، وأن نهاية الحرب الباردة قد “تركتها أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى.. وإذا قدر لمشكلات المنطقة أن تُحل، فإن ذلك لن يتم على أيدي قوى خارجية، بل عن طريق قوى داخلية في المنطقة”.
• وما الجديد الذي يحمله “عصر التطرفات” للقارئ العربي هذه الأيام؟ 
إن هوبزباوم، ومن خلال منظوره الجدلي الماركسي المعروف، يضع أمام الأجيال الجديدة من الدارسين والقراء أحداث القرن العشرين وتطوراته التي لم يعاصروها أو يشهدوها، مع أن آثارها وتداعياتها قد أدت دورا حاسما في حيواتهم. وبالإضافة إلى القيمة العلمية والمنهجية المتميزة لمضمون هذا الكتاب المرجعي، فإن نسخته المترجمة تسد فراغا واضحا في المكتبة العربية، وتمثل إسهاما متواضعا في تعريف قادة الرأي والنخب التربوية والسياسية والاقتصادية، والقراء العرب عامة، بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي، وبالأعمال والمؤلفات الأجنبية الجديدة أو المتجددة القيمة، في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية عامة، وفي العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والثقافية والفنية بصورة خاصة. كما أنها تطرح قدوةً تُحتذى أمام جميع الباحثين والأكاديميين العرب.
• تتحدث عن الترجمة بحماسة كما لو كانت اختصاصك الأول. فماذا تعني لك، وكيف ترى أبرز عناصرها ودورها في الحياة الاجتماعية السياسية والثقافية؟ 
على الصعيد الشخصي، أتعامل مع الترجمة بشغف وحماسة لأنني أعشق لغتي العربية عشقا لا حدود له، وقد يعود بعض ذلك إلى الماضي الشعري الذي تحولت عنه إلى اهتمامات ومشاغل أخرى. أما عن أهمية الترجمة ودورها الحضاري الحيوي عبر التاريخ تاريخنا العربي الإسلامي، فقد يمتد الحديث في هذا المجال إلى ما لا نهاية. وعلاوة على هذه الاعتبارات الأساسية، فإن الترجمة بالنسبة لي هي ترجمة ثقافة إلى ثقافة، وتكاد مواصفات المترجم الناجح تنحصر في عنصرين جوهريين متلازمين: أولهما التمكن والتمرس بالثقافتين وباللغتين، المترجَم إليها والمترجم منها على حد سواء. 

• وما حال حركة الترجمة في الأردن وفي الساحة العربية؟ 

ما تزال اقل من متواضعة في الأردن، على الرغم من بعض المساهمات المتميزة والمبادرات، ومنها قيام جمعية المترجمين الأردنيين، وقيام وزارة الثقافة، في محاولة واحدة يتيمة حتى الآن، بتكريم اثنين من المترجمين الأكفياء، ولكن في مجال الترجمة الأدبية فحسب لا في المجالات الفكرية والبحثية. وتسهم مؤسسة شومان وجامعة فيلادلفيا بجانب من هذه الجهود، غير أن القسط الأكبر من نتاج المترجمين الأردنيين إنما يصب فيما تقوم به مراكز عربية أخرى معنية بقضايا الترجمة في الكويت أبوظبي، ومصر والبحرين. وتؤدي هذه الهيئات دورا مشهودا في دعم حركة الترجمة وتعزيزها، على الرغم الكم الهائل الذي يتميز أكثره بالرداءة والغثاثة والتشتت، وغلبة الطابع التجاري وفقدان الدقة العلمية والأمانة الأخلاقية، وحتى القانونية، وشيوع الأعمال المقرصنة المشوهة التي تشوه الفكر المنقول مثلما تشوه الفكر المنقول إليه. 

• سؤال أخير: كيف ترى التكريم عندما يأتي من دول عربية أخرى غير الأردن؟

كنت أخشى أن يوجه لي مثل هذا السؤال المحرج. فإنني، إذ أحيي وأُكبر المؤسسات العربية التي غمرتني بمظاهر التكريم، فإنني أطلب الهداية للهيئات الرسمية والثقافية الأردنية. ولا يسعني، في مجال الترجمة تحديدا، إلا أن أردد مع أبي الطيب: “أنا في (بلدة) – تداركها الله – غريب، كصالح في ثمود”!

* عن الغد الأردنية  

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *