سليمى شاهين
ليست المرة الأولى ولا الثانية التي يصدر فيها البرتو مانغويل كتاباً يعبّر فيه عن شغفه وتعلقه بالقراءة، فقد نشر في السابق عن الدار عينها {تاريخ القراءة} و{يوميات القراءة} و{المكتبة في الليل}، وكان في كل عنوان يتناول ما لا تقرأه عيوننا، فيغوص في أعماق المؤلف باحثاً عن مكامن الدهشة وروائع الفكر ليقدّمها لنا على طبق يرفل بأطايب الكلمات التي تضفي التناغم على العالم فتنعشه خلال اجتيازه غابة الحياة المظلمة.
كتاب في مكتبة
يقول مانغويل: «ثمة كتب معينة تكوِّن، بحدّ ذاتها، مكتبة مثالية»، فيجيبه الناقد الأدبي في جريدة «الفايننشل تايمز»: «لعلّ هذا الكتاب أحدها».
يؤمن المؤلف بأن الإنسان في الصميم حيوان قارئ، وبأن فن القراءة، في أوسع معانيه، يميّز نوعنا الإنساني. فنحن نقرأ حيواتنا وحيوات الآخرين، نقرأ المجتمعات التي نعيش فيها وتلك الواقعة وراء حدودنا، نقرأ الصور والبنايات، نقرأ ما ينطوي عليه غلافا كتاب. والقراءة الأخيرة هي الجوهريّة، فالكلمات المطبوعة على الصفحة تمنح العالم تماسكاً منطقياً.
أنظروا ما معنى التماسك: عندما ابتلي أهالي بلاد ماكوندو بمرض يشبه فقدان الذاكرة، حلّ بهم في أحد الأيام خلال عزلتهم ذات المئة عام، أدركوا أن معرفتهم بالعالم جعلت تختفي بوتيرة متصاعدة، وأنهم قد ينسون ما كانت تعنيه بقرة، أو ما تعنيه شجرة، أو ما يعنيه بيت، اكتشفوا أن الكلمات هي الترياق. ولكي يتذكروا ما عناه عالمهم لهم كتبوا بطاقات تعريف وعلقوها في أعناق البهائم وعلى الأشياء: «هذه شجرة»، «هذا بيت»، «هذه بقرة ومنها تحصلون على الحليب الذي يعطيكم مع القهوة قهوة بحليب». هكذا تخبرنا الكلمات عما نحسبه نحن، كمجتمع، ماهية العالم.
إعادة الاكتشاف
يلتجئ مانغويل في خضم الشكّ والخوف إلى مكان آمن، فلا يجد مأوى حقيقياً يمنحه الضوء والأمل والحميمية كالكتاب. وكان كلما يعيد قراءة كتاب يشعر وكأنه لم يقرأه من قبل ابداً. وما يحدث معه مشابه لإعادة الاكتشاف التي كانت تحدث مع الكاتب رالف والدو أمرسون.
في «بوش»، وهذا اسم منزله في كونكورد، بدأ إمرسون ذو السبعين عاماً يعاني مما كان على الأرجح مرض الألزهايمر. وبحسب كاتب سيرته كارلوس بيكر: «أمسى بوش قصراً للنسيان… ولكن القراءة ظلت متعة لم تُعطب. وشيئاً فشيئاً تحوّل مكتبه في بوش إلى معتكفه. تشبّث بالرتابة المواسية للعزلة، قارئاً في مكتبه حتى الظهيرة، وعائداً إليه مرة اخرى بعد الظهر، إلى أن يحين وقت نزهته. تدريجياً فقد ذاكرته تجاه كتاباته، وكان يغتبط بإعادة اكتشاف مقالاته: «عجباً، حقاً هذه الأشياء جيّدة جداً»، قال لابنته.
إن ما يبقى ثابتاً هو متعة القراءة ، متعة الإمساك بكتاب بين يديك والشعور المفاجئ بذلك الإحساس اللذيذ من الدهشة، المعرفة، البرودة أو الدفء، إحساس يستثيره من دون أي سبب ملموس شريطٌ معيّن من الكلمات.
بين بورخيس ودانتي
يكشف البرتو مانغويل اللثام عما كان يعانيه بورخيس في عشقه، لقد أحسّ بأن السعادة لم تكن قدره. واساه الأدب ولكنه لم يكن قط عزاءً كافياً لأنه كان يسترجع أيضاً كل خسران أو فشل، كما عرفهما حين كتب الأبيات الأخيرة من السونيتة الأولى:
«لا أحد يخسر- عبثاً تردّد-
إلا ما لا يملكه ولم يملكه أبداً،
ولكن لا تكفيك الشجاعة
لكي تتعلّم فنّ النسيان.
رمزٌ، وردة تمزّقك إرباً
وغيتاراً قد يقتلك».
كان بورخيس يصبو إلى ارتباط بسيط هيّن حتى قبل شهرين من وفاته بمحاولة الزواج من ماريا كوداما، فلم يعد يلتقي بمعارفه القدامى، وظلّ هاجسه بياتريس بطلة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، بياتريس التي قد أفعمته عيناها بغبطة تفوق طاقة الاحتمال. وقد أسرّ يوماً باعتراف بعدما نشر كتاب «تسع مقالات عن دانتي» فقال: «أن يتخيّل السعادة رجلٌ تعس ليس أمراً استثنائياً بلا شك، جميعنا نقوم بهذا في كل يوم يمرّ. دانتي أيضاً فعل ذلك مثلنا، ولكن ثمة على الدوام شيئاً يتيح لنا أن نلمح الرعب خلف التخيلات السعيدة هذه».
أثناء كتابته قصيدته العظيمة أدرك دانتي أنها قصيدة عظيمة، ويقول للقارئ إنها كذلك. ولكن قلة هم الفنانون الذين يدركون عبقريتهم من دون غلوّ أو تواضع ضيّق الأفق.
توقف وأعمال غير منجزة
يمرّ المؤلف في دربه على عظماء توقفوا عن الإنتاج في عز عطائهم. فالشاعر الفرنسي رامبو قطع مسيرته الشعرية في عمر التاسعة عشرة، ولم يكتب ج. د. سالنجر أي قصص بعد عام 1963، وأصدر الشاعر الأرجنتيني إنريكه بانكس كتابه الأخير عام 1911، من ثم عاش بعده 57 عاماً من دون أن يطبع ديواناً واحداً جديداً، ولا نعرف فيما إذا خالج هؤلاء الفنانين، في لحظة معينة الإحساس بأنهم قد أنجزوا ما يجدر بهم إنجازه، لذلك يستطيعون ان يتقاعدوا منسحبين من المشهد الذي ما عادوا يشعرون بوجود أي شغل لهم فيه.
وفي المشهد الآخر ثمة أعمال انقطع أصحابها عن إنجازها فهل تفتقر فعلا إلى النجاح؟ عندما يترك كافكا روايته «القلعة» قبل الخاتمة الشكلية للقصة، عندما يموت غارودي قبل إتمام كنيسة «ساغارادا فاميليا»، عندما يدوّن ماهلر على عجل الأقسام الأولى فقط من سمفونيته العاشرة، عندما يرفض مايكل انجلو مواصلة العمل على تمثال Pietà {سيدة الرحمة} في فلورنسا، فقد نعتبر نحن أن هذه الأعمال نصف منجزة، وهي بالنسبة إلينا مجرّد تخطيط أو نتيجة مبتورة، ولكنها غدت أعمالا رائعة في تاريخ الإنسانية.
مغامرات أليس
اعتمد مانغويل في مقدمته لكل فصل من فصول كتابه على مقطع فلسفي أو شاعري استمده من كتاب {مغامرات أليس في بلاد العجائب}. لقد غدا صاحب أليس المسكينة، وسقط معها في جحر الأرنب واجتاز المرآة في رحلة عجائبية قادته إلى عالم خياليّ قرأ فيه تجارب الآخرين لكنه عجز عن الوصول إلى غايته.
________
*الجريدة الكويتية