ثقافة الخوف من المؤنّث


*نوري الجراح

هل يصح الوقوف، باستمرار، ضد تصنيف الإبداع نسبة إلى جنس مبدعه؟ لطالما رأى المثقفون العرب الذين يصفون أنفسهم ب”المتقدمين”، أو “التقدميين”، ورأيت معهم، بشيء من المجازفة وغياب الدقة، أن الكتابة الأدبية (رجلاً كان صاحبها أو امرأة) تصدر عن الإنسان الكلي، ابن المجتمع، الحاضر في لحظة التاريخ، المتمثل لمشكلات عصره، والناظر إلى المستقبل، بصرف النظر عن الجنس والهوية والعرق، وبعيداً عن أيّ اعتبارات للفروق الجنسية والاجتماعية والجغرافية. والآن أشعر أن مثل هذا الاعتقاد كان ينقصه التحديد، فضلاً عن أنه ظل يفتقر إلى الدقة، خصوصاً عندما يعوزنا أن نذهب إلى تشخيص المشكلات والقضايا التي تتداخل، ومن ثمة تسهم في تشكيل الكتابة، وتحديد معالمها وغاياتها، وتفصيلاً، عندما تتفكر في الأنوثة وموقعها من الفنان، وفيه.

لربما كانت ضآلة الوعي النقدي وضعف الاستعداد لفحص المقولات التي تسيطر على هذا الوعي ومراجعتها، وتأسر المخيلة الجماعية للمثقفين، سببين لافتين في تخلف تلك الذهنية التي دأبت على إنتاج الأوهام حول الآخر/المرأة وإعادة إنتاجها، في سياق نظرة إلى الأشياء تسلِّم بالمعطى من دون فحص، وتأخذ بالأشياء على عواهنها وعلاتها. يستوي في ذلك (وإن بدرجات متفاوتة) المثقف الإسلامي، والمثقف العلماني (قومياً) كان أم ماركسياً، أو هو ليبرالي (واهماً أو لاعباً) حداثي أم سلفي.
والسؤال، الآن، ما الذي يجعل النظرة إلى المرأة والسلوك بإزائها، لدى هؤلاء جميعاً، محكوميْن، في الجوهر منهما بمقاييس ومعايير متقاربة، حتى لا نقول متشابهة؟ (قيم الرجولة ومقاييسها السائدة) بما يجعلنا نتخيل أن الفجوات القائمة بين فكرٍ وفكرٍ يتخالف معه، تبقى نظرية، وبالتالي لا تجد ما يردمها إلا بما في ذلك السلوك المشترك من تسييد لقيم ذكورة معتدّة بتفوقها. وبداهة، فإن الموقف من المرأة، لا بد أن يعتبر معيارياً، لو سلمنا بحقيقة أن الحياة لها صانعان. وأن المثقف هو أقدر على التخلي عمّا اغتصبه (الرجل) عبر التاريخ من حقوق المرأة، واعتبره حقاً مكتسباً، ممزِّقاً بذلك النسيج الروحي والنفسي المضيء الذي يلوّن الكائن بألوان الأنوثة والذكورة، ويصنع المتعدد فيه.
ولكن الأمر في ثقافتنا يبدو أعقد من هذا التشخيص المبسّط، ففي استقصاء أعددته مرة في مطالع التسعينات يوم كنت أصدر مجلة “الكاتبة” حول “المؤنث” والرجل العربي توجهت به إلى الشعراء والكتاب العرب، قصد التعرف على طبيعة نظرتهم إلى المسألة ومدى انشغالهم بها، وموقع المؤنث من إبداعاتهم، وقبلاً من تكوينهم الفكري والروحي، بدا لي أن غالبية هؤلاء المثقفين لم يكونوا منشغلين بالفكرة أو هم دوهموا بالأسئلة المطروحة ووجدوها، ربما، أكثر جرأة من أن تُحتمل في ظل واقع عربي يشهد انحطاطاً اجتماعياً وروحياً ونكوصاً فكرياً مطّرداً، يجد تجلياته في حوادث ومظاهر شتى أصابت في الصميم مختلف نواحي الحياة والنشاط الإنسانييْن في العالم العربي.
رصدتُ يومها تهيّباً من الفكرة حتى من قبل أولئك الذين تحمسوا لها، ولم يجدوا فيها، كما رأى بعض المحافظين، مجرد فكرة فبركتها مخيلة شخص “مناصر للمرأة” كما يوصف النسويون العرب عادة، أو وسيلة لنشدان إثارةٍ ما تحقق رغبة متطرفة في مخالفة الأشياء ومعارضة السائد. على العكس من ذلك، إنما رأوا في بعض ما رأيناه مدخلاً ضرورياً لطرح تساؤلات فكرية وجمالية متقدمة حول الأنا والآخر، من باب استكشاف الأبعاد النفسية والوجدانية العميقة التي تقوم عليها العلاقات بين الرجال والنساء العرب والمحتوى الفكري والجمالي للقاء الأنوثة والذكورة في كائن، وبين كائنيْن وكائنات، ومن ثمة التجليات الجمّة والثرية لهذا اللقاء كما تنعكس في الظواهر الأدبية والفنية، للوقوف أخيراً على الإشكاليات التي تحكم هذه العلاقة. وتلك التي تنتج عنها.
إذن نحن إزاء بحث معمق، أو على الأقل بحث جدي في المسألة. فما الذي يجعل المثقف العربي خائفاً ومرتاباً من الأنوثة؟
هذا السؤال العالق وما تجاوره من أسئلة مشابهة تكاد اليوم تبدو ترفا فكريا إزاء حال المرأة التي تشغل حيزا يزداد تهميشا داخل مجتمعات تشهد ثورات وانتفاضات، فتهشّمت وباتت هي نفسها هامشا مشلولا في ظل صراع دموي بات عابرا للجغرافيات، وهازئا بالخصوصيات المجتمعية. فكل شيء في حال العرب اليوم يبدو في عين العاصفة.
وبالتالي بتنا أحوج ما نكون اليوم إلى إعادة تركيز الأسئلة العالقة في سياقات جديدة. إنها سياقات الربيع الذي بات شتاءات دامية.
***
لنكن أكثر صراحة، ولنقل إن “المثقف التقدمي” يسلّم بالأفكار الجديدة والجريئة، وعندما يصل الأمر إلى السلوك تتبدّى مظاهر عجزه عن المغامرة وخوفه من الأخذ بها أخذ السالك، حتى لتبدو الهوّة بين الفكر وفعله في الوقائع، سمةَ ثقافةٍ، ودليلاً إلى شرخ عميق في الشخصية الثقافية العربية.
***
في هذا الملف تستأنف مجلة “الجديد”، بوصفها منبراً عربياً، مقاربة السؤال الشائك، لتعيد طرحه مجدداً، لا كسؤال مُرجإ وحسب، وإنما كسؤال حارق لا مناص من مقاربته في ظل لحظة عربية عاصفة اختلّت معها جميع الموازين. منطلقين من اعتبار يرى أن لا تقدم للمجتمعات العربية، لا ربيع ولا مستقبل، دون ردم الفجوات الكثيرة بين الثقافة والناس، بين الرجل والمرأة، وبين النخب والشارع. خلال سنوات أربع تزلزلت الأرض، وأخرجت أثقالها الثقيلة. فإذا بها حمم دفينة، تفجرت بفعلها المكونات والهويات ومعها الأسئلة. فلنطرح، إذن، السؤال حول المؤنث والمجتمع، والمؤنث والثقافة، والمؤنث والخيال الجماعي بالجرأة التي تُتيحها لنا لحظة الحقيقة، وبوعي الضرورة التي تلحظ أن لا مستقبل للعرب دون تصحيح العلاقة بين المرأة والرجل، وتطوير نظرة نحو المؤنث تغادر انشدادها إلى الماضي المُتوهّم، وقيمه الظالمة، ليمكننا أن ننظر إلى المستقبل بعينين اثنتين، لا بعين واحدة هي عين الرجل.
هنا في هذا الملف أفكار وملاحظات مختلفة، بعضها يلاقي بعضه الآخر وبعضها يتفارق عنه، لكنها بمجملها تتيح لنا فرصة التعرف على وجهات نظر كاتبات وكتاب من مشرق العالم العربي ومغربه، والكشف عن إشكاليات شتّى يثيرها السؤال في الوعي. وهي بمجموعها تفصح ولا بد عن طبيعة انشغال الوعي الذي صدرت عنه بالسؤال حول المؤنث في الثقافة والاجتماع. لعلها أن تكون مدخلاً إلى نقاش حرّ، ودعوة إلى سجال جريء حول ما هو مسكوت عنه، ويراد له أن يظلّ في أرض معتمة بعيداً عن نور السؤال، وإلحاح الرغبة في استدراج مقاربات وإجابات لم تعد ضربا من الترف، في ظلّ نكوص مريع أتاح لقوى الظلام أن تنهض من مكامن العطب الاجتماعي والسياسي لتجهز على القليل الذي أنجزته المرأة وأنجزته المجتمعات خلال قرن مضى، وهو تقهقر في هاوية لا قرار لها، يصيب أول ما يصيب الحلقة الأضعف اجتماعيا، ألا وهي المرأة.
تحية متجددة لكل من شارك في هذا الملف، بصرف النظر عن موقفه ورأيه. نريد لهذا الملف أن يكون عتبة ليس إلا، ومطلعا يلهمنا المزيد، ويحضّ عليه الحياة الثقافية العربية التي افتقرت (على غناها الأكيد) إلى تركيز أسئلتها، وتحرير أخيلتها، وطرد أشباح الخوف عن النصّ والسؤال.
لئن غيبت منظومة القيم السائدة في المجتمع العربي الأنثى والمؤنث (كحيّز اجتماعي مهمّش تاريخياً) في مكان قصيّ من ذات الفنان، ورمت ظلالاً قاتمة على هذا المكان من نفس المبدع العربي، فإن الخوف من (الأنوثة) على (رجولة ناقصة وركيكة!) لا يمكن تفسيره إلا على أنه خوف من الذات ومجهول النفس لدى الرجل، وخوف من مغامرة الحرية وتجريب الانفكاك عن الموروثات السلبية في اللاوعي الجمعي (لدى الرجال والنساء معاً) وأفدحها. قطعاً، تلك التي تقوم على الخوف من المرأة والخوف من الاختلاف. وهو خوف لا مبرر حقيقياً له لدى الفنان، ما دام إبداعه يقوم على مناهضة الظلم ومقاتلة القيم البالية، ومنها تلك القيم المفرطة في (رجاليّتها)، والتي تقف عقبة أمام اعتراف الفنان بما يتحرك فيه من نزوع مضاد لكل ما هو قمعي، بينما هو يستعد للعطاء المبدع بالمعنييْن الفكري والجمالي.
هنا تبدو المهمّة الكبيرة والحرب الصامتة التي ينتظر من المبدع خوضها ليتخلص من رواسب التفكير القديم، وما تكون مساحة تعبيره، ساعتئذ، غير تلك الأرض الثالثة المشرقة حيث يتحرر الكائن من عقد الصراع بين النساء والرجال، بعيداً عن التحرك النسوي المغالي في انقساميّته، لصالح لقاء إنساني منفتح وراق بين الرجال والنساء في إطار علاقات من الاحترام الاجتماعي، والإقرار بحقوق النساء.
بداهة، ليس في وسع المبدع التعبير عن كلية الكينونة الإنسانية من دون تمثّل الآخر المختلف، وتمثّله ليس مسألة نظرية، أي أنه لا يمكن أن يتمّ من دون الدخول في منطقة الأنثى، والأنثوي، والمؤنث.
هنا في الشق الثاني من الملف شهادات من كاتبات عربيات من مشرق العالم العربي ومغربه، على حدّ سواء، تكشف مجتمعة عن وعي تحرري يستند إلى مرجعيات مختلفة ويتحدر من مشارب متعددة، في محاولة لزحزحة صخرة السؤال.
___________
شاعر من سوريا مقيم في لندن/ العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *