لا شك أن أحداث العنف التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة بدأت تثير تساؤلات كثيرة حول مفهوم الشهادة. لقد صار موضوع الاستشهاد يحظى اليوم بالاهتمام من قبل العديد من الباحثين من ناحية، ومن قبل العديد من الحركات الإرهابية أيضاً. ففي معظم الأديان بالفعل تفسّر الشهادة، أي الموت في سبيل الدين، على أنها علامة على يقين الذهاب إلى الجنة. فالإرهابيون الذين يرتكبون أعمال عنف يأملون أحياناً في أن يُقتَلوا في هذا العمل، أو هم يتقصّدون الموت، كما هو حال الانتحاريين، مثلاً.
ترى الباحثة الفرنسية في المركز الوطني – الفرنسي – للبحث العلمي، كاتيل برتيلو، أنه لا بد من التمييز بين الشخص الذي يوافق على الموت المفروض عليه من قبل الجلاد، وبين الشخص الذي يحارب ويضحي في سبيل الله وإنقاذ الآخرين، وبين الشخص الذي ينتحر هرباً من التعذيب، أو التنازل عن عقيدته وإيمانه. فالأول يكتفي بتحمّل العنف، فيما الثاني والثالث يختاران الموت، أي الشهادة.
وترى الباحثة أن النوع الأول من الشهادة هو الذي تحتفي به المسيحية، منذ القرن الثاني، عندما كان الشهود – Martus باليونانية – يتعرّضون للاضطهاد من قبل السلطة الرومانية، لأنهم رفضوا عبادة الإمبراطور.
وفي رأي الباحثة الفرنسية المتخصصة، جاكلين شابي، أن هذا المفهوم قريبٌ من دلالة بعيدة في إيديولوجية الشهادة في الإسلام، إذ تقول: «صحيح، وفقاً لخطاب الحرب وشتى أشكال الحث على الجهاد التي نجدها في القرآن الكريم، أن الشهادة يجب أن تُفهم من حيث هي نداءاتٌ كان الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يوجّهها لصحابته الذين كان بعضُهم لا يتحمّسون كثيراً لفكرة المشاركة في الغزوات البعيدة». ولذلك تُحذّر هذه المتخصصة في الإسلام في القرون الوسطى، من التفسير الخاطئ والسطحي الذي يُخلط في الآيات القرآنية بين «الجهاد» (القتال) وبين «القتل». لأن القتال (الجهاد) في القرآن الكريم ليس هدفه القتل، لسببٍ وجيه وهو أن كل قبيلة ترغب، على العكس، في أن تحصل على عدد أكبر من الأولاد حتى يكبروا ويؤمّنوا مستقبل الجماعة.
ومن هنا تستنتج هذه الباحثة أن المقصود من هذه الآيات القرآنية التي تجمع بين القتال والموت هو التحذير من خطر التعرض للقتل – حتى لا يَحْرِم المقتولُ (الشهيد) ذويه من بقائه حياً – ومن خطر قتل الآخرين بدون وجه حق – وهو ما قد يؤدي تلقائيا إلى الرد الانتقامي. ومن هنا ندرك أن ما جاء في القرآن يناقض تناقضاً تاماً الأيديولوجيات المهووسة التي تتّبعها الحركات الجهادية الحالية».
موقف المسيحية
وتُعرّف المسيحية الشهيد artyr بأنه الشخص الذي يوافق على الموت من أجل معتقداته ودينه. وكثيراً ما يستخدَم هذا المصطلح في الدين المسيحي، حيث تم تطبيق صفة الشهيد منذ القرون الأولى على المسيحيين الذين كانوا يواجهون الاضطهاد والموت، وهم يدافعون عن دينهم. وقد صيغت الكلمة وتم تصوّرُها كردّ على الضغوط الاجتماعية والدينية والسياسية المعقدة. لقد كان المسيحيون الأوائل في العصور القديمة، مضطهدين من قبل الرومان. لقد رفض بعضهم التخلي عن دينهم على الرغم من الاضطهاد، وآثروا الموت، وهؤلاء هم الشهداء. أما الشهادة في المسيحية فهي الفعل الذي يموت به أو يُقتَل به الشخص، وهو ما يجعل منه شهيداً.
ويرى بعض فقهاء المسيحية أن المسيحيين في الأصل لا يعتقدون بشيء بعينه، وإنما يؤمنون بشخص يسوع المسيح، وهذا الإيمان هو الذي يريدون الشهادة عليه. وهذا هو معنى كلمة Martur. لكن السلطات الرومانية لم تكن تضع الدين على هذا المستوى. فالدين بالنسبة لها مسألة مدنية خالصة. ولذلك كان سوء الفهم الأساسي ينصب حول مصطلح الدين religio الذي يحمل من جهة، المعنى الطقوسي والمدني «المؤسّس»، ومن ناحية أخرى معنى الالتزام والتضحية، وطريقة الحياة والموت.
ويعني ذلك أن مصطلح الشهيد في المسيحية يقع على مفترق طريقتين مختلفتين في ممارسة ما نسميه «الدين». لكنه يظل، ومنذ البداية، مرتبطاً وبقوة، بالسياق التاريخي والثقافي للإمبراطورية الرومانية. فهذه الإمبراطورية كانت في بداية المسيحية تملك في الواقع «دين الدولة». فكل من يدعي أنه مسيحيّ ويرفض هذا الدين اعتبر «وثنياً» أثيماً من قبل القائمين على الدين الرسمي للدولة. فكان هذا المسيحي يموت إذن دفاعاً عن إيمانه بيسوع المسيح، ويموت لأنه رفض التخلي عن هذا الإيمان. ويشهد على ذلك موت بوليكاربوس، أسقف سميرنا، الذي أُحرِق حياً في الملعب، بمناسبة الاحتفال بدين الإمبراطورية، نحو سنة 150 ميلادية. لقد كان الاضطهادُ مبرراً دينياً وسياسيًّا، وكانت المسيحية تبدو كقوة ثورية في ترتيب القيم التي كانت تمثل قيم الوثنية اليونانية واللاتينية. ففي نظر السلطات الرومانية كان البُعد التدنيسي لرفض التضحية من أجل الإمبراطور يرافقه بُعدٌ آخر، وهو نشر المسيحية عن طريق التبشير.
ففي التقاليد المسيحية هناك العديد من الشهداء. البعضُ منهم تم إضفاء صفة القداسة عليهم، وهم الآن يلقَّبون بالقديسين. وقد ظلت قصص المعجزات المرتبطة باستشهاد بعض الشخصيات تضاف إلى الاعتقاد بأن هذه الشخصيات مقدسة، فهم قديسون يجب عبادتهم أو تقديسهم. ولذلك تربط المسيحية العديدَ من الشهداء بالمعجزات.
تقول الباحثة الفرنسية المتخصصة في الديانة المسيحية، صوفي دو فيلونوف، إن «الشهادة في المسيحية ليست انتحاراً ولا تجلية». وفي هذا الشأن تشير الدراسات المسيحية إلى أن المسيح عليه السلام كان خلال حياته العلنية قد أعلن لكل الذين يتّبعونه ويؤمنون برسالته، بأنهم سيُواجِهون الاضطهاد. وقبل وفاته ترك رسالة لحوارييه يقول فيها : «كونوا شهداء عليَ إلى أقاصي الأرض». فهو نفسه عانى الكثير من الإهانات في صمت، وسامح جلاديه ومات مطمئناً. حياته، كما قال، «لا أحد يأخذها، فأنا من يمنحها» (يوحنا 10). فمن يهب حياته كما وهبها يسوع، ومن يتقبّل الموت حتى لا يرتد عن إيمانه، كان في أيام الكنيسة الأولى، يمثل الشهادة العليا والأسمى. لقد شهدت أنواع الاضطهاد الأولى نهوضَ حشدٍ من الرجال والنساء الذين كانوا يُقْبِلون على الموت طوعاً، وفي أسوأ أنواع العذاب: فهم في نظر المسيحية «الشهداء» الأوائل. وعلى شرفهم أقيمت الكاتدرائيات والكنائس، وكان الناس يفضلون أن تقام أضرحتهم إلى جانب هذه الصروح الدينية. لقد ربط العلامة أوريجانوس) (85 – 254) كان من أبرز أوائل آباء الكنيسة المسيحية) بين الاستشهاد وذبيحة الصليب، على اعتبار أنَّ ذبيحة الحَمَل لها انعكاسها في بذل دم الشُّهداء الذين يبذلون دماءهم واعترافهم وغيرتهم على الصَّلاح ، فالموت يُصبِح ثميناً، ليس الموت العقيم غير المُثمِر في السماوات، بل ذلك الموت المُقدس من أجل الإيمان المسيحي. وقد رأى ارتباط الشُّهداء بالمسيح نفسه، وفي استشهادهم ضرورة للخلاص.
موقف الإسلام
أما في الإسلام فالشهيد هو الشخص الذي يموت من أجل دينه. وغالبا ما تُترجم هذه الكلمة «الشهيد» إلى اللغة الفرنسية بكلمة «
martyr، والحال أن الكلمتين، لهما في رأي الكثير من المتخصصين، نفس المعنى، وتعني «الشاهد». لكنْ، خلافا للشهداء المسيحيين فقد يكون الشهيد المسلم هو الشخص الذي يموت وهو يقوم بأعمال مقاومة، كأن يقاتل، مثلا، من أجل أرضه المغتصبة، أو من أجل أفكاره.
وفي أيامنا هناك العديد من الجماعات الإرهابية التي تدّعي الدفاع عن الإسلام وتتعاطى مفهوم الاستشهاد: فإذا كان الانتحار محرماً في الإسلام، فإن بعض الإرهابيين، من دون الوصول إلى الحد الانتحاري، يسعون في نشاطٍ جمّ إلى تحقيق نهاية عنيفة، – طلباً للشهادة – من خلال مواجهة مباشرة.
وتجدر الإشارة إلى أن المرجعيات القرآنية والنبوية عن الشهادة والشهيد عديدة، والاجتهادات متنوعة ومتضاربة، بحسب المذاهب الدينية والفقهية، وحتى بحسب السياقات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية. ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً حول معرفة ما هي القضية الأنبل، الجديرة بالتضحية، أي الشهادة؟
وقد اختلف فقهاء المسلمين في دلالة الشهادة، فالإمام الشافعي، مثلا، يصف الشهيد كل من قُتل وهو يقاتل الكفار، وليس له من دافع غير ذلك. ويضيف أن الشهيد هو الذي يموت خلال معركة ضد الكفار. وبالتالي فإن عبارة «خلال معركة» تستثني كل من لم يمت في هذه المعركة. أما بالنسبة لعبارة «ضد الكفار»، فهي تستبعد كل من لقي حتفه في معركة بين المسلمين فيما بينهم.
ويرى المهتمون أنه من المهم أن نميز بين الإسلام السني والإسلام الشيعي فيما يخص مكانة الاستشهاد. لقد أنشأ التشيع إطاراً نظرياً يضع الشهيد في مقدمة أولوياته العقائدية. فالتقاليد الشيعية ما انفكت عبر العصور تغذي قداسة الشهيد، إذ جعلت منه الناشط من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية. وفي المقابل نجد السنة تحظر الرغبة في أن يتمنى الشخص الموت لذاته (أو لغيره)، والانتحار. لقد ذهب الفقهاء المسلمون من أهل السنة في تفسير السيرة النبوية إلى حد ابتكار مراتب للشهداء. وهكذا فهم يوزعونهم إلى معسكرين: شهداء الدنيا وشهداء الآخرة.
يقول الباحث عادل جاسم صالح المسبحي «سمي الشهيد شهيداً، لأنه حي لم يمت، فهو عند الله شاهد حاضر حي. ويرى أن للشهادة أقساماً، كالشهادة الكبرى أو شهيد الدنيا والآخرة: وهو من قتل مجاهداً في سبيل الله، مقبلاً غير مدبر في حرب الكفار. والشهادة الصغرى أو شهيد الآخرة وهو المبطون والمطعون وصاحب الهدم وغيرهم ممن مات بسبب فيه شدةِ على النفس». ولكن يبقى السؤال، في نظر الباحثين، مطروحاً: ما هي المعايير التي يعزو بها هؤلاء الفقهاء، صفة الشهادة، للشهيد؟
موقف اليهودية
أما اليهود فيطلقون لفظة قدوش هاشم (تقديس اسم الله) على الأعمال التي ترضي الله وتقربهم منه. ويعتبر تعبير التضحية بالنفس من أجل الديانة اليهودية إحدى أهم ركائزها الأساسية. وتشير المصادر إلى أن لفظة قدوش هاشم (أي الشهيد) تطلق غالبا على القتلى اليهود في الحروب المكابية والحروب التي تلتها ضد الرومان. كما تطلق اللفظة على اليهود الذين تم قتلهم لأسباب دينية على مر العصور.
وفي الديانات والمعتقدات الأخرى تفيد المصادر التاريخية والأنثروبولوجية أن لفظ الشهيد يستعمل كذلك من قبل البهائيين والسيخ والهندوس، للدلالة على من قُتلوا من أبناء هذه الديانات، دفاعاً عن معتقداتهم. كما تم استعمالها من قبل التونغمينغهوي والكومينتانغ الصينية، للإشارة إلى من قُتل من أتباعهم خلال ثورة شينهاي.
مارتن لوثر كينغ
مارتن لوثر كينغ (15 يناير 1929 – 4 أبريل 1968).
ناشط سياسي وإنساني أميركي من أصول أفريقية. حصل على جائزة نوبل للسلام 1964. ناضل ضد المساواة والتمييز العنصري. وأطلقت مجلة «تايم» عليه لقب «رجل العام» ليصبح أول رجل من أصل أفريقي يمنح هذا اللقب. اغتيل على يد رجل متعصب من البيض منهياً بذلك قصة كفاحه.
تمييز لا بد منه
تقول كاتيل برتيلو الباحثة الفرنسية في المركز الوطني – الفرنسي – للبحث العلمي: لا بد من التمييز بين الشخص الذي يوافق على الموت المفروض عليه من قبل الجلاد، وبين الشخص الذي يحارب ويضحي في سبيل الله وإنقاذ الآخرين، وبين الشخص الذي ينتحر هربا من التعذيب، أو التنازل عن عقيدته وإيمانه. فالأول يكتفي بتحمّل العنف، فيما الثاني والثالث يختاران الموت، أي الشهادة.
________
*الاتحاد