شعبان يوسف
احتفلت القاهرة الأسبوع الماضي بمرور 31 عاماً على رحيل الشاعر أمل دنقل الحاضر بقوة، بل الأشدّ حضوراً دون كل الشعراء الراحلين، لدرجة أنه لا يحتاج لمنافسة الأحياء، فهو أكثر منهم حضوراً جميعاً وبشكل لافت، وربّما الواقع وطأة الملابسات الاجتماعية والسياسية المتعاقبة والمتفاقمة، هي التي تدفع كلماته وقصائده دوماً للأمام، لأنها كلمات تنطوي على رفض وتمرّد واحتجاج، ولا تختفي خلف أقنعة ثقيلة، أو بين رموز بعيدة عن الثقافة الجمعية.
ودوماً يستدعي قرّاء الشعر ومحبّوه وجمهوره الواسع، فقرات من قصائد أمل باعتبارها شعارات واقية ودافعة للثورة، مثل:
(المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال «لا» في وجه مَن قالوا «نعم»
مَن علّم الإنسان تمزيق العدم
مَن قال «لا».. فلم يمُت
وظل روحاً أبدية الألم).
وكذلك كل فقرات قصيدة «لا تصالح»، وهذا دليلٌ على التفاعل الأعلى بين حالة أمل دنقل الشعرية، وحالة الجمهور – دوماً – لاستدعاء كلمات وجمل وشعارات الاحتجاج، حتى وصل الأمر بهذا الجمهور، لرفع بعض أشعار أمل على لافتات في الانتفاضات المتعاقبة، واستثمارها في حملات التحريض أو التثوير، ولأن أمل يحيي بعضاً من القيم العربية القديمة، والتي تثير قدراً كبيراً من نخوة غائبة أو مفقودة في زمن يراه الجميع بأنه زمن التراجع والنكوص.
وإذا كان هذا الأمر، أي وجود قصائد أمل دنقل في وجدان الناس وتظاهراتهم، وربما حيواتهم اليومية، قرينة نجاح وتحقّق عند دوائر كثيرة من المتابعين من كتّاب ومبدعين ومثقفين وقرّاء بسطاء، إلا أن ذلك يُستخدم كقرينة ضده عند البعض، خاصة من الذين كانوا معزولين شعرياً وفنياً وثقافياً عند العامة، وظلّت قصائدهم وتجلياته الإبداعية كافة، محض كتابات غامضة مثل الأحجبة، والتي لا تفكّ رموزها إلا باستدعاء طقوسية خاصة.
ومما زاد الأمر تعقيداً، أن أمل نفسه – في حياته – كان مشاكساً، وكان رافعاً راية العصيان الفني والفكري والسياسي، في مواجهة كثيرين، ولم يكن يأبه بأي ردود حادة، أو شائكة، هذا كان شأنه هو ورفيق رحلته يحيى الطاهر عبدالله، وكان الاثنان يختلفان عن ثالثهما الجنوبي عبد الرحمن الأبنودي، والذي كان يأنس بالناس، وتأنس الناس به، ويبتعد عن الاشتباك معهم.
والثلاثة جاءوا معاً في العام 1960، واختلفت درجات حضورهم الأدبي وأزمنته، وكان عبد الرحمن الأبنودي أسطعهم في البداية، لأنه كان أكثرهم وجوداً في المحافل والندوات الثقافية، ورغم أن الأبنودي كان مجنداً في القوات المسلحة، وكان يلفت النظر في الندوات عندما يأتي مرتدياً زيّه العسكري، وعندما يصعد إلى منصات إلقاء الشعر، كانت لهجته الجنوبية عاملاً إضافياً للفت النظر، هذا فضلاً عن صوته الشعري الجديد والخاص والمحتدّ.
أما أمل فلم يمكث كثيراً في القاهرة آنذاك، ولكنه ذهب إلى الاسكندرية، وانتمى إلى جماعة شعرية متوسطة الحضور والقيمة، وهي «جماعة أدباء الاسكندرية»، وكانت هذه الجماعة غارقة في معارك تقليدية وصغيرة، وكان الشاعر محمد أمل دنقل – وهذا الاسم الذي كان ينشر به في بداياته – هو الأعلى ثقافة وحضوراً بينهم، رغم أنه كان لم يتجاوز العشرين من عمره، إلا أنه كان أبرزهم، وعندما نشبت معركة على صفحات مجلة «الشهر»، والتي كان يرأس تحريرها المسرحي والكاتب سعد الدين وهبة، حول سرقة قصيدة للشاعر فتحي سعيد، من الشاعر عبد العليم القباني، وكتب أعضاء هذه الجماعة مقالات قصيرة حول هذا الحدث، وهنا انطلق أمل دنقل ليكتب أول مقالة له في حياته حول هذا الأمر، وكان ذلك في شهر مايو 1961، وفي هذا المقال وضع أمل نقاطاً كانت غائبة عن المعركة، فأغلقت كلماته أبواب الاجتهاد في هذا الشأن بعد أن وبّخ الجميع، وأظهر هشاشة منطقهم في مناقشة مثل هذه القضايا.
وجاء أمل إلى القاهرة بعد ذلك، وارتبط بأبناء جيله، وخالط الشعراء والمثقفين والكتّاب، وعادت صحبته مجدداً بأصدقاء بلدته يحيى الطاهر عبدالله وعبدالرحمن الأبنودي، والذي شقّ طريقاً أكثر لمعاناً، وإن كان يحيى والأبنودي خالطا تجمّعات اليسار، وانتميا إلى تنظيم «وش»، أي وحدة الشيوعيين، هذا التنظيم الذي ضم مجموعة من المثقفين والكتاب مثل ابراهيم فتحي وسيد خميس وصبري حافظ وسيد حجاب، وكذلك كان معهم الكاتب غالب هلسا الأردني، وكان هذا الأخير ضالعاً في تثقيف هذه الجماعة بشكل كبير.
ولكن أمل دنقل كان حريصاً على الابتعاد التنظيمي دوماً، والابتعاد المباشر عن ممارسة السياسة، وهذا كان سبباً كافياً للقبض على كل زملائه، وتغييبهم في المعتقل منذ أكتوبر العام 1966حتى مارس العام 1967، وكان أمل في تلك الفترة غارقاً فى بعض قصائده العاطفية من ناحية، وكان يكتب قصائد وطنية، هذه الوطنية الناصرية، فكتب قصيدة «أغنية إلى الاتحاد الاشتراكي»، مثل أستاذه أحمد عبد المعطي حجازي، والذي كتب هذا العنوان قبله، ثم كتب أمل دنقل قصيدة عنوانها «أوجيني»، ونشرها في مجلة «صباح الخير»، وأهداها إلى جمال عبد الناصر، وذلك في الاحتفالات الخاصة بمرور ثلاثة عشر عاماً على قيام ثورة 1952، وكان أمل في هذه الفترة مازال آملاً في النظام الناصري، وكان منتمياً له على المستوى التعبيري.
واختلف الأمر تماماً بعد كارثة 1967، وانعكس الشاعران أمل دنقل والأبنودي، فراح الأبنودي يغنّي ويحرّض على الانتصار ومواصلة الكفاح ضد الصهاينة، ويكتب «أحلف بسماها وبترابها… طول ما انا عايش فوق الدنيا.. ما تغيب الشمس العربية»، وبالطبع هو يقصد جمال عبد الناصر، والذي غنّى له بشكل مباشر «ولا يهمك يا ريس ..م الأمريكان يا ريس»، أما أمل دنقل، فكتب في قصيدته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، ناعياً ورافضاً كل ما يحدث:
(أيّتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف.. مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء.. عن فمك الياقوت.. عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو مايزال ممسكاً بالراية المنكّسة)
ولكن أمل دنقل، كان يثير حفنة من المشاغبات، تصدر عنه، أو تصدر في مواجهته، بداية من التشابك العضوي، حتى أن الكاتبة صافيناز كاظم التي كتبت في سياق مقال لها، أن حواراً حاداً جرى بينها وبين أمل على مقهى ريش، فلم تستطع أن تسيطر على أعصابها في مواجهة استفزاز أمل لها، فقذفته بفنجان القهوة.
أما أشكال العراك والهجوم والانتقاد، فلم يسلم منها أمل طوال حياته، حتى من رفاقه، وعلى رأسهم الدكتور جابر عصفور نفسه، الذي لا يترك مناسبة خاصة بأمل دنقل، إلا وذكر فيها ذكرياته معه، وأحوال صداقتهما الحميمة، وقد جمعتنا احتفالية لأمل مؤخراً مع صديق ثالث لأمل، وهو الناقد محمد بدوي، وربما كان عصفور في تلك الفترة التي وصف فيها الشعر المصري بحالة من الوخم، آملاً في نهضة شعرية عربية يراها متمثلة في شعراء عرب من خارج مصر، وكتب عصفور في شهر نوفمبر العام 1975، في مجلة «الكاتب» المصرية، والتي كان يرأس تحريرها الشاعر صلاح عبد الصبور فقال: «.. المؤكد – في تقديري على الأقل – أن ثمة – حالة وخم شعري سائدة، تشي بها قناعة الكثير من الشعراء – على تفاوت أجيالهم – بما أنجز على مستوى الرؤية، أو على مستوى الأداء الشعري، عليّ أن أشير – فحسب – إلى استرخاء الشعراء الرواد، صلاح عبد الصبور قانع بيوميات مسالم أو مستسلم – لا أدري – تشغله مشاهد زوربا للمرة العاشرة، والبحث عن الشباب المفقود، ورواية مؤدبة لهنري ميلر، وعتاب الأصدقاء، ولقاء النجوم وحسب، وأحمد حجازي مغترب يكتب في عامين قصيدتين، ويشغله تدريس العربية في السوربون ومراسلة صحيفة مصورة، ويثقل الوخم فيعقل صوت غيرهما من شعراء الخمسينيات، وإلى تكرار شعراء الستينيات لأنفسهم، ولا جديد عند أمل دنقل أو عفيفي مطر أو محمد ابراهيم أبوستة».
وطالت وقفة جابر عصفور في هذا المقام، بينما أشاد بتجارب أدونيس وسعدي يوسف وحتى ممدوح عدوان الذي كان موزعاً بين الترجمة والصحافة والمسرح والمسلسلات التلفزيونية والشعر، الذي لم ينل الرعاية الكافية منه في تلك الفترة، بينما كان أمل في أزهى لحظاته، وكان يستعدّ لإصدار ديوانه الثالث «العهد الآتي»، هذا الديوان الذي نقل دنقل من مرحلة تعبيرية إلى مرحلة تعبيرية أخرى.
وإذا كانت ملاحظات جابر عصفور العام 1975، ملاحظة عابرة من صديق لصديق، إلا أن الأسهم التي لم تُصب أملاً بجراح، ولكنها كانت تزيده قوة، أولها كان مقال لرجاء النقاش حول مشابهات بين قصيدة لأمل، وقصيدة أخرى للماغوط، ثم في يوليو 1979 أجرى القاص يوسف أبو رية حواراً مع أمل، ونشرته مجلة الكراسة الثقافية، أبدى فيه بعض ملاحظات سلبية حادة حول تجربة الشعراء الجدد، واتهمهم في الحوار بأنهم مجرد مقلّدين لأدونيس، فما كان من الشاعر حلمي سالم إلا أن يكتب رداً مطولاً تحت عنوان «أدونيسيون ودنقليون»، شنّ فيه هجوماً نقدياً على أمل، ولكن أمل دنقل لا يأبه، ولا يلتفت، وكرّرت جماعة «أصوات» الشعرية هجوماً أكثر قسوة، وأصدر أعضاء الجماعة بياناً ضد أمل، ونشروه في أول إصدار للجماعة، وهو ديوان «أعلن الفرح مولده» للشاعر محمد سليمان، وذلك في ديسمبر العام 1980، واعتبروا أن أمل دنقل شاعراً رجعياً، ولا تعبر قصائده إلا عن ذائقة قديمة وفاسدة، وهاجموه بضراوة بصدد قصيدته التي رثى فيها يوسف السباعي عندما اغتالته مجموعة من الفلسطينيين في مطار لارنكا بقبرص، فكتب أمل قصيدته ضد الإرهاب، ولكن الجماعة أدانت أمل دنقل لهذه الإدانة، وجدير بالذكر أن بعض هذه الجماعة مازال يلاحق أملاً بالهجوم حتى بعد غيابه الجسدي بإثنين وثلاثين عاماً.
وهذا يثبت أن أملاً كان ومازال وسيظل رقماً ذهبياً في المعادلة الشعرية المصرية والعربية. إنه الرقم الأصعب والأكثر جدلاً، وربما تزداد حوله الأطروحات، فكلما أمعن الزمن في المرور، أمعن في هذا الحضور الساطع لأمل دنقل، مهما كانت التخرّصات والاختلافات حوله.
عن السفير الثقافي