علي عبيدات*
خاص ( ثقافات )
فضاءات دلالية رحبّة تتراءى للباحث عن النار، فهو أمام عوالم متسعة الأكنّاف تفور وتميز دلالةً ورمزاً وموروثاً وتراثاً وطقوساً وأسطرةً وجزاءً وتأثيراً وتأثراً وذاكرةً جمعية، ليكون الباحث أمام أبواب يضفي كل واحد منها إلى ألف باب، وهنا محاولة بسيطة للبحث عن نصيب ومكانة وهويّة النار وتقفي أثرها في غير موضع وهيئة وحقبة.
النار عمود من أعمدة الأديان الكردية والأزيدية بشكل خاص فهي باللغة الكوردية (آري) وثمة صلّة أزليّة بين النار والدين في طقوس وتراث الأزيديين، وهي حاضرة في كل الطقوس والأدعية والمناسبات الدينية، ومنها إشعال النار في ليلة رأس السنة الأيزيدية، وحضورها في المعبد الإزدي، وهي ركنٌ رئيس في الديانة الزردشتية باعتبارها تمثل النور والخير في ثنائية الصراع بين الخير والشر (أهورمزدا وأهريمن) وظلت باقية في الزردشتية بعد ظهور مجدد الزردشتية “ماني” الذي جاءت معه المانوية، ودمج بعضاً من رؤى الأديان الأخرى دون أن يمس قدسية النار.
والنار حاضرة في الهندوسية والبوذية كحرق الميت ورمي الشموع المشتعلة في بحر الكنج وحدائق الإنصات، وتُقَدسُ النار في العديد من العقائد والشرائع الوثنية الأخرى، وتحدثا الثقافة الفارسية عن قصة اكتشاف النار في قتال مع تنين، فعندما كان البطل يرمي بالحجارة على التنين، أخطأ هدفه واصطدم حجره بالصخر، فتولد الشرّر بهذا وشبّت النار لأول مرة، وفي ثقافات أخرى ثمة العديد من القصص والأساطير التي تحدثت عن مولد النار في بقاع مختلفة من العالم القديم.
ولا تفارق النار سير الشخصيات الخرافية كالضحاك صاحب الرأسين الذي كانت ناره في يمينه وصال وجاب في بلاد ما وراء النهر، والأخرى الدينية كصاحب الجنة والنار “المسيح الدجال” الذي تكون ناره جنة وجنته ناراً، وكانت وصيّة الدين الإسلامي لمن يشهده أن يختار النار لينعم بالجنة وينجو من التهلكة عندما يخيّره بين جنته وناره، وثمة “نار تخرج من قعرة عدن ترحِّل الناس” كعلامة كبرى من علامات يوم القيامة في المعتقدات الإسلامية وفق ما جاء في صحيح مسلم.
وثمّة رأي أصيل لأرسطو قسم به عناصر التكوين إلى أربعة عناصر هي: “التراب، والماء، والهواء، والنار”، لتكون النار صاحبّة يد طولى في تكوين التكْون وخلق الخلق، وأن تكون ضاربة في قِدّم تاريخ الميثولوجية والثقافات، أمثال المايا والأزتك وما بين النهرين والفراعنة والهنود الحمر وأمم الكاريبي وأصقاع الهند والصين والبوشمن في أستراليا وقبل هذا في دورة تطور الإنسان بذاته (هومو سابينز، هومو سابين، نياندرتال، هايدلبر) والعاقل ومنتصب القامة والملتقط والعديد من المراحل التي تختل في ترتيبها واسمها وفق رؤية العلماء والباحثين، لكن ثمة حدث كان نقطة عطف في تاريخ الإنسان، وهو الإنسان “مُكتشف النار”.
النَّارُ عنصرٌ طبيعيٌّ فَعَّال، يمثلِّه النور والحرارة المحرقة، وتُطلَق اللهب الذي يبدو للحاسَّة، كما تُطلَقُ على الحرارة المحْرقة. عبدها رهط من العرب في وثنيّتهم بتأثر من الثقافة الفارسية التي كانت تعاليم الأفستا سارية عليها في شريعة زرادشت (المجوس لاحقاً)، وللنار أسماء مختلفة عند العرب منها: النار، والصلاء، والسكن، والضرمة، والحرق، والحمدة، والحدمة، والجحيم، والسعير، والوحى. ويذكر أبوهلال العسكري أنه كان للعرب الأوائل قبل الإسلام ثلاث عشرة ناراً.
ومن هذا، قول أميّة بن أبي الصلت -الذي التقي نبي الإسلام محمد وتحاور معه وسمع منه القرآن لكنه أبى أن يسلم وفق الروايات، ويشير إلى طقس ديني كانت تقوم به العرب طمعاً بالمطر أثناء سنين القحط والجدب:
عاقدينَ النيرانَ في شُكَرِ الأذ…. نابِ عمداً، كيما تَهِيجَ البحورا
فرآها الإلهُ تُرشَمُ بالقَطْـ…. ـرِ، وأمسى جَنابُهم ممطورا
ووفق قصيدة أميَّة والروايات، فقد كان العرب يشعلون النار في ذيول أبقار سمان بعد أن يرفعوها إلى أعالي تلة لطلب الماء بطقس الاشتعال هذا، والنار (كجحيم) حاضرة في قول فارس العرب وشاعرها في الجاهلية عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة… بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم… وجهنم بالعز أطيب منزل
ولعل هذا توثيق لتقديس العرب للنار، وهي بهذا تتجاوز الغاية الوجودية منها وتصل إلى القيمة العليا للنار وما في قفا قيمتها، باعتبارها نافعة ومقدسة، ووقتذاك لم يكن حكم الإسلام قد جاء ليقرّ بأن النار رمز للجحيم التي تتربص لأصحاب الخطايا.
وتتفق الديانات البراهمية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية على النار كعذاب يعذب به الرب في الآخرة، فذكرت النار في القرآن الكريم بلفظ “النار” في 145 موضعاً في عدة سور، ولها أسماء مختلفة، منها جهنم وسقر وسعير ولظى والهاوية وقيل بأنها سبعون ضعفاً من نار الدنيا، وجاء في القرآن الكريم وصف وأسماء وأنواع وطرق العذاب وهيئة أهل النار ومنه: “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير”. (الملك، الآية 10). وجاء في المتفق عليه “ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم “. وأيضاً في قوله تعالى: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ”. (سورة البقرة، الآية 24). وللنار خزنة يسمون الزبانية، وكبيرهم اسمه مالك نبي الإسلام محمد ووصفه بأنه كريه المنظر لا يبتسم.
أما المسيحية، فقد جاء في انجيل (متّى 18: 9): «وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ ٱلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ». وفي متّى أيضاً (25:41) “بعيد عن رحمة الله، في النار الأبدية”. وفي موضع آخر «لأَنَّ تُفْتَةَ مُرَتَّبَةٌ مُنْذُ ٱلأَمْسِ، مُهَيَّأَةٌ هِيَ أَيْضاً لِلْمَلِكِ، عَمِيقَةٌ وَاسِعَةٌ، كُومَتُهَا نَارٌ وَحَطَبٌ بِكَثْرَةٍ. نَفْخَةُ ٱلرَّبِّ كَنَهْرِ كِبْرِيتٍ تُوقِدُهَا» (إشعياء 30: 33)، وفي غيره «وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ ٱلأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلٱِزْدِرَاءِ ٱلأَبَدِيِّ» (دانيال 12: 2).
ورافقت النار ممثلةً بالشموع التصوف المسيحي أثناء طقوسه التي تتلخص في التأمل والصلاة والتقشف والانضباط، والارتفاع والرؤى، وعمل بها كبار المتصوفة المسيحيين مثل جورج فوكس وسانت تريزا وغيرهما ممن خلدوا قدسيّة النار والشمع في التراث الصوفي المسيحي.
وفي هذا الإطار نرى رؤية الأديان (إسلام، مسيحية، يهودية) للنار لا تتجاوز مفهوم الوعيد والتهديد والعقاب والجحيم إلا في زوايا معينة من القرآن الكريم التي ذكرت فيها النار كوسيلة مخاطرة وفداء ودعم، فكانت النار في “كوني برداً وسلاماً” إشارة إلى مخاطرة مطلقة يقبل عليها العبد لينجو برحمة الله ويفوز برضاه، وكما قال النفري في مخاطباته “في المخاطرة جزء من النجاة”، وجاءت النار دليلاً وهدى كما في صورة طه (إِذْ رَأَىٰ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، فالنار أول ما يقوم به الغريب أو المسافر أو الوحيد كشيء من المؤانسة.
وفي الموروث، ثمّة عادة عربية قديمة (من منظور ديني) نلاحظها عندما يطفئ العربي ناراً بالماء فيقول أثناء سكب الماء على النار “بسم الله الرحمن الرحيم”، وهذا يدل على مكانة النار عند العرب، حتى أنها دخلت في باب المثل والحكم كقولهم عن الكريم “كثير الرماد” وقول السموأل “وما أخمدت نار لنا دون طارق/ ولا ذمنا في النازلين نزيل”، وقول ابن القيم “خلقت النار لإذابة القلوب القاسية”، وكذلك الروايات التي تتحدث عن مصير من مات حرقاً بأنه في الجنة، لأنه أخذ نصيبه من النار.
وثمة أمثال كثيرة على قدسيّة النار التي يقدرها المسلم ويعمل على تخليدها في الذاكرة الجمعية، منها الشمعدان في موكب عاشوراء الحُسيني، وتكرار النور والضياء والاشعاع في العديد من الأذكار والأدعية والنتاج الأدبي عند المتدينين.
وثمة حديث عن الاحتراق الذاتي (SHC) الذي تاه المفسرون بين أن يكون فيزيائياً (تضارب كهرباء الجسد) أو كيميائياً بسبب تفاعلات تحدث في أعماق الجسد البشري، أو روحياً بفعل الطاقة الكونية والطقوس الروحانية، لكنهم اتفقوا على أن أعراضه هي فقدان السيطرة على الأعصاب وتقلب المزاج، والهلّع فتشب النار في جسد الإنسان من دون مصدر اشتعال خارجي، وهنا تجد النار في أعماق النفس البشرية وفق تلك الروايات عن الاحتراق الذاتي التي كان أولها ما نشره الفرنسي يوناس نيكول ميليت عن حالات الاحتراق الذاتي عام 1637.
ويلخص باشلار رؤيته للنار قائلاً: “تقدم النار والحرارة وسائل للتفسير في الميادين الأكثر تنوعاً، إنهما بالنسبة إلينا فرصة لذكريات خالدة وتجارب بسيطة وحاسمة. النار إذن، ظاهرة متميزة يمكنها تفسير كل شيء، إذا كان كل ما يتغير ببطء تفسره الحياة، فإن الذي يتغير بسرعة يفسر بالنار، النار هي الحي جداً، إنها حميمية وكونية تعيش في قلوبنا كما تعيش في السماء ومن بين كل الظواهر، فإنها حقاً الوحيدة التي يمكنها الحصول أيضا بشكل واضح على القيمتين المتعارضتين: الخير والشر”. (النار في التحليل النفسي – غاستون باشلار).
ولو فتحنا باب المخزون الدلالي للنار متمثلة بالموروث الذي تآلفت معه العقلية البشرية قبل وبعد أن أصبحت قيمة عليا ولا تنحصر على وجودها المادي، لكنا أمام ثنائيات يصعبُ حصرها، ومنها: الإله والشيطان والسلطة العقاب والوثنية والخوف والدفء والطعام والنور والفداء والنبوءة والقوة والطاقة والحب والجنس والإثارة والسرعة والطموح والخطر والدم والحرب والثورة.
للمتصوفة رأي آخر، فقلما تأتي النار بمعنى الجحيم في نصوصهم وشعرهم وملاحمهم العقلية، وضمن الرموز التي يمكن تأويلها للنار في نصوص المتصوفة، نجد النار بين شوقٍ ومعرفةٍ وجوار، وعند فئة قليلة منهم خوف وبحث عن الوقاية من العذاب، وتتسم النار في النص الصوفي –الشعري تحديداً- كفيض يجود به العارف بعد امتلاءات عرفانية وأبواب نوارنيّة مهولة يفتحها العارف أو يحسب نفسه فاتحاً لها، ليفيض بعدها بشعر انغمس صاحبه بالحالة الروحية الصوفية بين جذبٍ وحيرة ثقيلّة، ومن هذا قول بايزيد البسطامي: “لله عبيدٌ لو بصقوا على جهنمَ لأطفؤوها”، فهذا ما أملاّه الوجد والجذب على البسطامي حتى خرج من عرف جحيمية النار وجعل منها مخلوقاً من مخلوقات الله، وبوسع عبيده المخلصين أن يخمدوا رعبها وعذابها بالعشق والسعي ومواظبة التعبد الحق.
لكن الأمر مختلف عند رابعة العدوية فهي تشكل النار بكل ما أوتيّت من همّة وانغماس في الحالة العرفانية، ونارها ليست محض جزاء لمن عصا، تماماً كجنتها التي لا تراها إحساناً بعد عمل، فهي تواظب حالة العشق دون خوف من عقاب أو تقرباً من ثناء، لأن العشق بلا مقابل وفق العرف الصوفي الذي اجتمع تحت قبّته كل أهل القلب، لتقول:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أو أن يسكنوا الجنان فيحظوا بقصورٍ ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا
ولا ينفي هذا رؤية النار كعقوبّة صرفة عند بعض المتصوفة فثمة خوف وخشية من النار “وإياي فارهبون” (سورة البقرة، آية 40)، حتى أن البعض ذهب إلى النشوة بعذابها وفق المعتقد الصوفي المقدس بالنسبة للمتصوفة “إنهاك الجسد سمو بالروح”، أي الفناء والبقاء، كما في قول الحلاج:
وفي التفرُّقِ اثنانِ إذا اجتمعا… بالافتراق هما: عبدٌ ومولاءُ
كذا الحقائق: نارُ الشوق مُلتَهبٌ… عن الحقيقةِ إن بَاتوا وإن ناؤوا
ومن هذا أيضاً قول ابن عربي (فصوص الحكم ص 94):
نعيـم جنـان الخـلد فالأمر واحد… وبينهـــا عنـــد التجــلي تبــاين
يسمى عذابا من عذوبة لفظه…. وذاك لكالقشـر والقشـر صـائن
ويذهب ابن عربي إلى ما بعد النار واستحقاق عذابات أهلها فهي – وفق رؤيته- نعيم في مراحل مبكرة، ليقول (الفصوص ص169): “وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار.. إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها، وهذا نعيمهم، فينعم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار، فإنه ـ عليه السلام ـ تعذب برؤيتها..”، وفي القرآن الكريم “وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ” (16 الأحقاف)
وللنار في سيرة ونصوص مولانا جلال الدين الرومي العرفانية قصص كثيرة، جاءت مغلفة بغلاف رئيس وهو الشوق لشمس التبريزي الذي جاء وفجر ينابيع العرفان في صدره وتركه بين أوار النار، وأغلفة أخرى أبرزها النريفانا الإيمانية التي كان يسمو بها الرومي واصلاً ذروة الحالة الصوفية ونهايات الوجد، وبين أن يكون ناي الرومي رمزاً لحالة الغربة وأن تكون النار رمزاً للغريب والشوق والمعرفة والوجد، يمتلئ صدره بها ليقول:
نارٌ في قصبّة هذا الناي وليس الصفير
ومن لا تعتريه هذه النار لن يحيَّا
وثمة قصة يرويها الأفلاكي حدثت مع الرومي وهو طفل، لتجعل من النار هاجساً لم يفارق الرومي منذ صبّاه حتى ارتقى وغاب، فقد التقى الرومي الطفل بالعارف الكبير فريد الدين العطار (صاحب منطق الطير) في طريق هجرة الرومي وأبيه بهاء الدين ولد صاحب “المعارف” فأُعجب العطار بالرومي وأهدّاه منظومته الصوفيّة الكونيّة (أسرار نامه)، وتفرس فيه فراسة، قائلاً لأبيه: لن يلبث ابنك هذا حتى يشعل النار في هشيم العالم.
وللنار نصيب في لقاء مولانا بشمس التبريزي وفق رواية من الروايات التي تتحدث عن لقاء الرومي الأول بشمس، عندما دخل شمس على الرومي وهو يجلس وحيداً في غرفة الدرس وحوله الكتب، فسأله عن الكتب التي حوله بشيء من الاستهزاء “ما هذا؟”، فأجابه مولانا: “هذه كتب العلم”، فنظر شمس إلى الكتب وأشعلها بنظرة عين، وكانت تلك إشارة من شمس بأن الكتب تضم علوم الظاهر ولا فائدة منها، وعلى المرء أن يكون باطنياً ممتلئاً بالحقيقة لا الشريعة والرسوم، والنار هي التي تلتهم الظاهر وتبقي على الباطن.
وأما النار بين الرومي ومحمد إقبال، فقد قال محمد إقبال أن الرومي زاره في المنام وطلب منه أن يشعل النار في قلوب الناس (جلويد نامه: رسالة الخلود) باعتباره من عشاق الرومي، فكان يلقبه في شعره “حكيم الروم”، والنار بينهما حاضرة كإشعال لفتيل المعرفة الإلهية والعشق في قلوب الناس، وهذا ما يلتمسه قارئ القطبين.
والنار كشوق ومخاض صعب يفضي إلى المعرفة الإلهية، هي نار ابن الفارض، الذي يرى النار والاحتراق سبيلاً للمعرفة، ويصف السعي على طريق المعرفة كحريق يشُّب في قلب المريد في قوله:
زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً…. وارحمْ حشىً بلظى هواكَ تسعَّراً
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقةً….. اسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي: لن تَرَى
ولعل الشوق كما تقدم سمّة النار الكبرى في النص الصوفي، باعتبارها ذروة الانجذاب والتماهي مع الحالة الصوفية العليا، فيقول عبد القادر الجيلاني:
وَكُنْتُ وَإِبْراهِيمَ مُلْقَىً بِنَارِهِ… وَمَا بَرَّدَ النِّيرانَ إِلاَّ بدَعْوَتِي
وقال مشتاقاً أيضاً في بيت منسوب له:
ولست أبرح في الحالين ذا قلق… نام وشوق له في أضلعي لهب
ومثله المشتاق الآخر، عفيف الدين التلمساني، الذي قال:
بِحُبِّكَ اشْتَغَلتْ حَواسِي مِثْلَمَا… بِجَمالِكَ امْتلأَتْ جَمِيعُ جِهَاتي
ولا يختلف هذا عن شوق ابن الخيمي (تلميذ ابن الفارض):
وأقام في قلبي وأوقد ناره… فيه ورد فقيره عن برّه.
وتنطفئ نار الشوق ذاتها في صدر أبي الحسن الششتري وهو يقول:
كلما قلتُ بقربي… تنطفي نيرانُ قلبي
زادني الوصلُ لهيبا… هكذا حالْ المحبِ
ومن المحدثين قول الشيخ والأديب المغاربي فريد الأنصاري (1960/2006) الذي يصف نار المعرفة بأنها الوجد والشغف والجذب والانغماس مع الحالة الصوفية الصرّفة، فيقول:
أوقدْ مصابيح القصيدة واحترق… فالنور من لهب الجوانح يولد
زيتونة القرآن أشرق طلعـها… من زيتها حرف الهداية يوقد
وعلى هذا، فالنار منذ بداية التكوين وحتى اليوم قيمّة عليا في كينونة وتكوين كل ذرة في الوجود، وصاحبة يد طولى في حياة الإنسان وفكره منذ خلقه ونشأته وتطوره واكتشافه لذاته وحتى جزائه وفق الهالة الدينية التي أُسبغَت على النار بين مرحلة خلقه منها (عناصر التكوين) وخلق من كان قبله (الجن) وحتى مرحلة اكتشافه لها وتقديسها وتهديده بها بعد شرعنّة الحرق كعذاب في الأديان.
*شاعر ومترجم من الأردن.