أحمد الشيخاوي*
خاص ( ثقافات )
لعل فضول الإحاطة ـ جمالياًــ بالكينونة الذاتية ومعرفياً حتى، أو بالأحرى التقيد بخوض مغامرات اقتناص بعض الحظ مما قد يقود إلى مستويات النبش في أسرار وجودية تبرِّر نسبية انفتاحنا على ما يعمِّق فهمنا للعوالم التحتية والدفينة في ارتباطاتها وتداخلاتها مع منظومة أسئلة لحظية مستعصية تتيح مقاربات منطقية لتخوم أنوية النزوع نحو الهامشي والمعطل مروراً بغيبوبة تمنحها الميتافيزيقيا الدالة على بؤر التصالح مع الذات والانخراط في حيثيات الراهن.
لعلَّ ذلك وما يوازيه يعدُّ من أبرز ما يحفِّز على الكتابة، وفضِّ بكارة البياض وتقليص حيِّز العشوائية والارتجال، ضمن نطاق تصول فيه الذهنية وتجول فوق ما تفعل أدوات الفعل الإبداعي. إنه ثقل المعلومة ووطأتها وحجمها الخرافي وتمنُّعها على الاختزال في المعنى الواحد واليتيم.
أخال الشاعرة الجزائرية نسيمة بوصلاح لا تزيغ في مجمل منجزها عن السرب المترنم بهكذا طرح. إنها نموذج صوتي لا يضحي بفنية العنصر التعبيري إلا اضطراراً، وإن ثمَّ لها ذلك ففي حلَّة تصعق محاولات النفاد والتسلل إلى كنوزها الأيديولوجية التي تنتصر للوازع الإنساني وتفجِّر مكامن النضارة في تجعُّدات المنجز.
لذا سنقتصر في احتضاننا لهذه التجربة المكتظة بمواويل الأنوثة الصارخة والمتحصنة بهودج الرؤى المقارعة لفحولة الأصوات الرجالية. نكتفي بالقصيدة الموسومة بــ”هامش على شره البحر الوهراني” ما دامت تفي بالأغراض المفذلك لها سالفاً.
الرُّؤَى..
سَعَفٌ تَدَاوَلَهُ الرُّوَاةْ…
والكَتَاتِيبُ اخْتِصَارٌ..
للأَقَاوِيلِ الَّتِي..
قَدْ عَطَّلَتْ لُغْمَ اللُّغَاتْ…
حضاري وإنساني أن نلج مرحلة الاستغناء الواعي عن اللغم أو أي سلاح مهما صغرت أو كبرت حدَّة الخطورة المترتبة عليه، كانسلاخ سلوكي إلى تعمير عالمي يفيض تآخياً ومحبة واستقراراً وأمناً وتعايشاً وسلاماً. بيد أن لغم اللغة يأخذ مفاهيم مغايرة تماماً، وقد ذيَّل المقطع أعلاه بسطر شعري صريح الوشاية بتلك المفاهيم.
إنها رؤى استباقية تنزع عن الصحراء رداء البراءة وتزكِّي الطرح الممسوس باستذئابها وتعطشها المرضي للدم في زماننا الحالي، وكأنها تعيش دورة كاملة يتأرجح منحنى جاهليتها أفقياً وعمودياً ليبلغ ذروته زمكانياً أكثر من يدفع ثمنه جيل الشاعرة.
ذنب هذه الصحراء أنها سنحت لكتاتيب الأقاويل المغذية للتطرف، ورخَّصت لها سبل التعشيش والتفريخ، فكان من البديهي أن يغرق العالم وتصطبغ صحراؤه بالدماء.
وَالفَضَا..
مَاءٌ تَكَلَّسَ فِي جَبِينِ حِكَايَةٍ
تُفْشِي العَرَائِسَ..
للَّذِينَ تَنَاقَلُوا خَبَرَ الوَفَاةْ…
هِيَ ذِي البَلَاغَةُ تَقْتَفِي شَبَقَ الخُيُولْ..
تَذْرُو الرِّمَالَ عَلَى مَتَاهَاتِ الكِنَايَةِ
واهْتِرَاءَاتِ النُّحَاةْ
لا أخسُّ وأقذر من أن يتلطَّخ الفضاء بدوره بما جنت يد البشر وأملت شيطنة الاتجار في الدين. أن يتحول الفضاء إلى جوقة تمتهن وظيفة النعي وتغلُّب خيول السبق إلى الأنانيات والتقوقع على المآرب الشخصية، مقابل قشور تفضحها الكتابة الحقيقية المحتفية بالمتبقي فينا من آدمية وكرامة وعنفوان.
فُكَّنِي..
يَا أَيُّهَا الـمُفْضِي إِلَى شَرَهِ البِحَارْ..
فُكَّنِي..
كَيْ أَسْتَقِيلَ مِنَ الكِتَابَةِ
والمجازاتِ الَّتِي مَا أَمْطَرَتْ
غَيْرَ التلكؤ فِي مَطَارِ الأُمْنِيَاتْ…
هي كينونة مقترنة التجليات بثيمة كتابة الهامش المفضي إلى البحر، بكل تأكيد. هي كينونة دافعة باتجاه اعتزال كتابة الاجترار والتكرار والمجازات الفكهية المكفّرة والمحرّفة للأبعاد الدينية الرسالية، وتنصل من عنق مجازاة الأثرة والتعسف الفكري والعقدي. هي كينونة لا يزدان تجوالها إلا بالانغماس فيما هو حداثي لا ينم عن تبعية أو انزلاق متهور من نسج غواية دخيل.
هَا ظِلُّكَ العَرَبِيُّ يَعْبَثُ بِالتَّفَاصِيلِ الَّتِي..
قَدْ قَلَّبَتْ قَلْبَ الحَدَاثَةِ
واسْتَطَالَ بِهَا الشَّتَاتْ…
البَحْرُ حِبْرٌ زَاخِرٌ..
والـمَجَادِيفُ اسْتَعَدَّتْ
كَيْ تَقُولَ لِكُلِّ هَاتِيكَ الـمَرَاثِي:
عَرَّشَ التَّانْغُو عَلَى سَفْحِ الحِكَايَةِ
موسما “للنَّازِلَاتِ الـمَاحِقَاتْ،
فاشْهَدُوا”..
أَنَّ الجِهَاتِ تَبَدَّلَتْ أَسْمَاؤُهَا
لِتَقُولَ إِنَّكَ..
صِرْتَ وَحْدَكَ..
كُلَّ هَاتِيكَ الجِهَاتْ…
أَعِدِ الشَّرِيطَ..
الأرجح أن حثالة العربدة والفتك والبطش القائم، فوق نعتها بالظلال العربية العابثة بالتفاصيل، والمبدّلة لأسماء الجهات والمتسببة بكل هذه المراثي، والمزينة للروح انزواءها واعتكافها على المشهد البحري الهامس إذ يضمد جراحات ذاكرة مترهّلة مثقلة بمسارح الدم المسفوك حمية وجهالة، حدّ تصور البحر مداداً تهب أسراره وطقوساً تمليه طاقة موجبة تخول الكتابة المضاهية للوثنية والهمجية والشذوذ.
لذا تلزم إعادة عرض الشريط، ومحاسبة النفس، ومحاولة ترتيب الأوراق من جديد.
رُبَّمَا.. تَمْشِي الجَرَائِدُ فِي جَنَازَتِكَ الَّتِي..
لَمْ يَبْكِهَا إِلَّا الصَّعَالِيكُ العُصَاةْ…
رُبَّمَا.. فَتَّقْتَ جُدْرَانَ القَصَائِدِ بِالبُكَاءْ..
وانْتَقَمْتَ مِنَ الفَرَاغَاتِ الَّتِي..
رَصَّعْتَهَا بِدَمِ الحَيَاةْ…
أَعِدِ الشَّرِيطَ لِكَيْ أُلَوِّنَ غُصَّتِي..
وَأَقُولَ إِنَّ غُثَاءَكَ الفِضِّيَ أَبْرَقَ..
ثُمَّ أَرْعَدَ..
ثُمَّ أَرَّقَنِي وَمَاتْ…
لا جرم أن جريمة الإعلام عموماً ماثلة في الانحياز السافر إلى الخطابات المسوّقة للأصولية في معناها القدحي المرفوض، أو المنابر المقامرة بالعنصر البشري عبر التعتيم الممنهج والمقصود المواري لخلايا الإرهاب النائمة.
وإذن… بالغثاء الفضي للصعاليك العصاة، في استعارات ملهمها البحر، الوهراني هنا، كما في حالة شاعرتنا، البحر كمتنفس ومعلّم حقيقي، وفضاء سيريالي ينطوي غموضه ورمزيته على ما يجعل زوايا النظر إلى الراهن وعالميته مختلفة تماماً ومتزنة غير مندفعة ولا هوجاء.
بهذيانهم تتمّ عملية الانتقام المشروع من فراغات يحصل استغلالها لصالح صناع الموت وعشاق الفوضى وآلهة الخراب.
فدم الحياة يجب أن يطغى ويسود. وألوان الحياة التي تعقب غصة مرثاة المشهد، لن تجود بها غير أرحام القصائد الصافية المتمردة على القيود البالية والهاجس العقدي المهجن والمدنّس.
قصائد صادمة من حيث معادلها الإنساني الكامن في مدى اكتساب المقدرة والجرأة كذلك على نبذ السائد وخلخلة الموازين وتبني الهامشي ومساءلة المعطّل.
* شاعر وناقد مغربي