خالتي نسيمة


*خطيب بدلة


تلقتْ خالتي «نسيمة» اتّصالاً هاتفياً من موظّف الاستعلامات في المشفى العسكري في مدينة دمشق… أعلمها الموظّفُ أنه قد أصبح بإمكانها زيارة ابنها «مروان»، المعتقل منذ سنة ونصف السنة، وما عليها، حينما تصل، إلا أن تسأل دائرةَ الاستعلامات، في المشفى، عنه..
قالت بلهفة: أيش به مروان؟ ليته يقبرني!.. وما الذي أوصله إلى المستشفى؟ إن شاء الله هو ليس بمريض أو…؟ ‏
لم يردّ الموظف على أسئلتها المتلاحقة، أغلق الخطّ في وجهها.
بسرعة، ولَهْوَجة، وتوق؛ غادرتْ خالتي نسيمة مدينة إدلب متَّجهة إلى دمشق، وهي تفكر بأن وجود مروان في المستشفى يعني أنه مريض، حتماً. وربما يكون هذا سبباً كافياً، بالنسبة إليهم، لإطلاق سراحه، والسماح لها بأن تصحبه في طريق عودتها إلى إدلب! فإذا كان مريضاً، لماذا يحتفظون به؟! ألكي يبقوا مرتبكين به وبمرضه؟! مستحيل.
بقيت هذه الفكرةُ مسيطرةً على ساحة تفكيرها طوال الطريق، وكلّما راودَها هاجسُ إقدامهم على الاحتفاظ به سارعتْ إلى نفيه. أصبح همُّها الأوّلُ- الآن- هو أن يكون مرضُه من النوع القابل للشفاء، وأما بالنسبة لمصاريف العلاج فلا أسهل من تأمينها، فالدار الكبيرة التي ورثتْها عن والدها تحتوي على أشياء كثيرة قابلة للبيع، إضافةً إلى الأساور الذهبية التي اشترتها بعدما مات زوجُها وورثتْ ‏«ثُمْنَ‏»‏ ما كان يملك، بحسب القانون والشرع. قالت لنفسها:
وإذا كان مرضُه خطيراً، لا سمح الله، أبيعُ الدار كلَّها، وأداويه بثمنها، ونقعد، أنا وهو، في الدار الصغيرة، فهي ليست سيّئة، بل على العكس؛ إنَّ كونها صغيرة يجعل تنظيفَها وترتيبها أسهل، وقليل من المفروشات تكفيها.. هي الآن متّسخة، نعم، وتحتاج إلى قَشْر الطلاء الكلسي المتآكل، ثم طلي بالدهان الزيّاتي. هذا كله يمكن إنجازُه خلال أيام قليلة.
إذا وافق مروان على فكرة الزواج، (والجدير به أن يوافق، فهو قد تجاوز الثلاثين من عمره الآن. إلى متى يبقى أعزب؟) يمكن أن يختص هو وزوجته بالغرفة القبلية القريبة من المطبخ، وأقعد أنا في الغرفة الشمالية القريبة من البوابة.. أستطيعُ، كذلك، أن أنظِّف الخرابة المجاورة لغرفته من الأوساخ، لتزول الروائح الكريهة التي تنبعث منها باستمرار، وأُسَوِّرَها ليصبحَ إلقاءُ الأوساخ عليها، من الخارج، مستحيلاً. وخلال فترة الخطوبة، وبينما يكون هو- يسلم لقلبي- منشغلاً بعروسه، أستعين بمعمار يبني لأجله حَمَّاماً صغيراً داخل المطبخ، لأجل الاغتسال، لأن الرجل والمرأة، في الأشهر الأولى للزواج، يحتاجان إلى الاغتسال كثيراً، وأما مَنْ كان في سنّي أنا، فيكفيه تنظيف جسمه مرّة في الأسبوع.
وابتسمتْ خالتي بارتياح، وفكَّرت:
تكفينا هذه الدارُ زمناً طويلاً، فهناك ست، أو سبع سنوات، لا يتجاوز فيها عددُ أفراد الأسرة خمسةَ الأشخاص: أنا، ومروان، وكنّتي، وطفلان صغيران، يكفي حضن دافئ واحد لاحتوائهما معاً، وبعدها يَحُلُّها الحَلال. 
كان على خالتي نسيمة أن تحتمل أيّة مشاقّ تعترضها في سبيل الوصول إلى المستشفى العسكري في دمشق، والدخول إلى الغرفة التي يستلقي فيها مروان. تخيلتْ أنها غرفة صغيرة بعض الشيء، وبداخلها سرير عسكري حديدي يستلقي عليه مروان، وجهه نحو السقف، ويتدلّى من ذراعه حبل السيروم، وفي السقف المنخفض ثمّة ضوء دائري يشبه القبّة، يُسقط أنوارَه عليه، وربما كانت هناك ممرّضة متوسّطة الجمال ترتدي الأبيض، وتقيس له الضغط، أو الحرارة…
في غمرة تفكير خالتي نسيمة، وتَزاحُم الصور والخيالات والتوقُّعات والهواجس في ذهنها، لم تنتبه إلى أنها وصلت كراج انطلاق الباصات بحَيّ القابون، وخرجت إلى الشارع. استفاقت في الشارع، تماماً، حينما رأت أمواجاً من الرجال والنساء لا يستطيعُ أحدٌ إحصاءهم أو تقدير عددهم يرفدون الشارع الرئيسي من الشوارع الفرعية، وهم يحملون أعلاماً كثيرة، وصورَ الرئيس حافظ الأسد، ولافتات كُتِبت عليها عباراتٌ تشيد بقيادته التاريخية وأفضاله على ‏سورية والشعب السوري. وكان الكلّ يهدرون بصوت واحد: بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ..
استبشرتْ خالتي خيراً بهذه المصادفة، فهي تعرف، أو أن لديها حَدْسَاً بأن أولي الحلّ والربط في موضوع المعتقلين يكونون، الآن، في أيام الاحتفال، أكثر لطفاً وطراوةً، باعتبار أن حُبَّ الرئيس يغلبُ عليهم، فيعطفون على الآخرين. لقد أخطأ مروان- الله يسامحه- خطأً جسيماً حينما اشتغل ضدّ الرئيس. لولا ذلك لكان يعيش، الآنَ، حياتَهُ بأمان مثل هؤلاء الناس.. يعني، صحيح أن الركض في المسيرات مُتعب، ويجعل الجسمَ يتعرّق، والثياب تتّسخ، ولكن هذه الأمور يمكن معالجتها بسهولة: حَمَّام ماء ساخن، وتبديل الملابس، وإلقاء الملابس الوسخة في الغسالة، ومن بعدها يرجع الإنسان إلى حياته اليومية كالمعتاد. في مثل هذه الظروف يمشي الإنسان العاقل بجوار الحائط ويقول: يا ربّ سترك. ما حاجتنا للسير في الدروب الخطرة؟ مرّة واحدة دخلتُ مع حبيب قلبي مروان في نقاش حول هذا الموضوع. يقبرني إن شاء الله، قال لي: يا أمّي، هذا الرجل اغتصب السلطة في بلدنا، وراح يذلّنا وينهبنا ويسلِّط سلالته علينا وعلى سلالاتنا. إنه مجرم يا أمّي، ومَنْ يعارضه يجب أن يدفع ثمناً غالياً. قد ندفع حياتنا- يا أمّي- في هذه القضية. ادعي لنا. بعدها صرتُ أراقب تصرّفاته، وألمح الرجال الذين يزورونه تحت ظلام الليل، يمكثون في غرفته طوال السهرة، ويغادرون قبل طلوع الضوء، وأنا لا أقول شيئاً، ولا أفعل شيئاً.. ولكن الله وحده يعلم أنني كنت أسمع دقّات قلبي بأذني، وكأنها دقّات الطبل، ولم أكن أهدأ أو أغفو قبل أن أراه وهو يدخل فراشه بعد مغادرتهم.
توقَّفت سيول التفكير والهواجس لدى خالتي نسيمة، إذ وجدت نفسها، فجأة، وسط دائرة من المحتفلين. كان الطبّال والزَّمَّار يقتربان منها رويداً رويداً، والرجالُ والنساءُ الذين يدبكون يمدّون أيديهم نحوها طالبين منها الانخراط في هذا العرس الذي لم تعرف عنه، حتى هذه اللحظة، سوى أنه من أجل الرئيس حافظ الأسد.. غلبها الحياء والخجل: أهي، في هذا العمر، ترقص في الشارع، وأمام كاميرات التلفزيون؟! اقتربت منها صبيّة ترتدي زيّاً فلّاحياً، سحبتها وهي تصيح:
يا الله، خالة، يا الله..
تَحَرَّكَ جسدُها بالتناغم مع جسد الصبيّة. ارتفع جسدُها، أنزلته مع الإيقاع.. داختْ، سَكِرتْ، نسيتْ أين هي.. أشرقتْ وجوهُ الناس الذين حولها بالفرح، وبالدهشة. ها هي تلبي رغبتهم بالمشاركة.. زاغ بصرُها، عركت عينيها.. فتحت عينيها.. اختلط عليها الأمر إذ رأت جثّة رجل مسجّاة على سرير في مشفى، هو، على الأرجح، المشفى العسكري. صوت الطبل والمزمار يرتفع. هذا مروان!.. أوه، ممكن، لا.. ارتفع جسدها، نزل، هزّت ردفيها مع ثدييها المتهدِّلين.. فتح مروان عينيه، ونظر إليها بعتب: قَتَلَني الأسد يا أمّي.. وترقصين لأجله؟
نزلت خالتي على الأرض..
جثّة هامدة!
________
*مجلة الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *