رواية تبحث عن مؤلف


*خيري منصور

لكل رواية حكايتها سواء كانت واقعية أو مُتخيّلة، هذا مع العلم أن الخيال هو في نهاية المطاف إعادة إنتاج للذاكرة بتجليات تطلق ممكنات الحدث، لهذا قال إرنست فيشر في كتابه «ضرورة الفن»، إن الخيال هو واقع بالغ التركيز، وحين يكتب إرنست همنغواي أنه لا يعرف غير ما رأى وسمع، فذلك ليس دفاعا عن واقعية فوتوغرافية، بقدر ما هو إشارة إلى إعادة إنتاج المرئي والمسموع، بعد إضافة الدربة والمران، وحين نعود إلى رواية «العجوز والبحر» لهمنغواي نتذكر ما قيل عن شرائه للحكاية من صياد بمئة دولار، وهذا ما حدث أيضا مع كازانتزاكي الذي لم يخترع زوربا، بل وجده في أحد الموانئ وتقصّى سيرته ليجعل منه الطرف الفاعل مقابل الطرف الشاهد وهما طرفا المعادلة الروائية بامتياز.

والواقع يعجّ بالشخصيات والنماذج التي تبحث عن مؤلف، تماما كما هي شخصيات الكاتب المسرحي بيرانديللو الستّ، التي كانت تبحث عنه بصفته مؤلفا، فهو أيضا لم يخلقها بل استثمرها كمادة خام لصناعة مسرحية فائقة المهارة، وهذا ما فعله أيضا ثورنتون وايلدر في بحثه عن مصائر ستة أشخاص غرقوا في النهر بعد انهيار جسر سانت لويس. تداعت لديّ هذه الأصداء وأنا اقرأ عن مغامرات مستر X الكولومبي، الكتاب الذي وصف بأنه الأكثر مبيعا في أمريكا اللاتينية وهو عن حياة بابلو إسكويار بقلم ابنه الذي اختار لنفسه طريقا آخر غير طريق الاب. ما يرويه الابن عن الأب يتخطى الخيال أحيانا، ومنها مثلا إحراق مليوني دولار من أجل تدفئة ابنته التي كانت معه وهو هارب من مطاردة الشرطة، أو استخدام مبالغ أخرى من المال لطبخ وجبة طعام بسبب عدم وجود الوقود.
أما منزل بابلو كما يصفه ابنه فهو أيضا يتخطى الخيال، لأننا إذا سلمنا بأن الخيال إعادة إنتاج لواقع ما، فإن الواقع الذي يوصف في هذه المذكرات لم يعشه أحد غير بطل حكايته، لهذا يبدو قصر الباتريارك في رواية ماركيز كوخا متواضعا قياسا إلى هذا الصّرح الذي يشبه سفينة نوح بما ضمّه من كائنات وأزواج، من هنا شعرت بأن هذه المذكرات تبحث عن روائي من طراز ماركيز، بحيث يضيف إلى «خريف الباتريارك» ربيعا قد لا يكون طويل العُمر لكنه يقدم مشهدا نادرا عن السفاهة والتبديد، لأن الأموال التي تنفق على هذا النعيم ذي البطانة الجحيمية من تجارة السموم والمخدرات التي طالما عانت منها تلك القارة الطازجة في طروحاتها عن الحرية وفي عافية أهلها الأكثر إقبالا على الحياة. فما الذي كان سيكتبه ماركيز لو بقي حيّا عن هذا النموذج الكولومبي؟ وهل كان سيحتاج إلى المزيد من التخيل كي يضيف إلى السرد الوظيفي المباشر جماليات أسلوبية أو حبكة روائية؟
إن ما نسمعه في حياتنا الواقعية عن روايات أشبه بمنجم أسطوري لو توفر له من يستخرج ما هو مكنون فيه، وقبل أيام قليلة شاهدنا على إحدى الفضائيات التغريبة الجديدة التي عاشها الأيزيديون في العراق وما جرى لرجالهم ونسائهم وأطفالهم … إن ما روته عجوز في التسعين يجعل ماركيز وبورخيس واستورياس وسائر السلالة يقفزون من مقاعدهم مرتين، فالروايات التي كان محورها الاغتصاب لم يصل الخيال فيها إلى اغتصاب فتاة في العاشرة عشرات المرات! فهل ما تزال التراجيديا البشرية أبعد وأعلى من أن تطال عناقيدها المرّة حتى أصابع المرَدَة من المبدعين؟
لقد كان القليل جدا من مثل هذه المشاهد يثير قشعريرة القارئ وقد يدفعه إلى العزوف عن إكمال القراءة بسبب عدم الاحتمال، أو حاجته إلى قارئ آخر يشاركه الحمولة، كما يقول كاتب مسرحي إسباني، وهو أن من يعيش في البراري ويقضم الأعشاب عليه ألا يفاجأ بأن هناك من هو أشد بؤسا وجوعا منه، إنه الذي يقضم الأعشاب التي خلّفها وراءه!
وكأن ثنائية السيئ والأسوأ هي قدر الإنسان الجديد الذي استولدته العولمة بأنابيبها، وقديما قال أرسطو إن الكُتُب أهم شيء في هذا العالم لكن بعد الإنسان، وبعده بأكثر من ألفي عام قال سارتر إن روايته «الغثيان» على الرغم من شهرتها لا تساوي شيئا أمام موت طفل. فهل هي مُفاضلة بين المكتوب والمكتوب عنه، أي بين الإنسان وروايته؟ بالطبع هناك من ذهبوا بعيدا في إعلاء شأن الكتابة بحيث تصبح أهم من الحياة.. وماركيز أحدهم لأنه كما قال عاش ليروي، لكن بالمقابل هناك من الكتّاب والمبدعين من تمنوا لو أنهم يولدون مرّتين، ويعيشون ضعف أعمارهم، ومنهم برناردشو الذي كان يشكو من قصر العمر حتى بعد بلوغه التسعين، والبير كامو الذي قال بأنه يحتاج إلى عمر يعيشه وآخر يكتب فيه ويشهد!
في رواية «زوربا» يحسد المثقف أو قارض الكتب صاحبه ذا الجسد المعافى الذي يكتب بجسده وقدميه عندما يرقص، ويتكرر مثل هذا الحسد لدى كتّاب آخرين، بحيث بلغ الأمر ببدر شاكر السياب أن حسد ديوانه الذي يتنقل من صدر إلى صدر ويعيش على وسائد الصبايا لكنه محروم من ذلك!
واذا صحّ أن لكل رواية جذرها الواقعي حتى لو بدت من عالم كابوسي آخر كأعمال كافكا، فإن معنى ذلك أن من يريد الكتابة عن قضاء ليلة في المحيط المتجمد الجنوبي ينادم فيها طيور البطريق عليه أن يجرب البقاء ليلة واحدة على الأقل في العراء تحت وابل الصقيع وبلا أي طعام كي يحصل على ما يسميه سبندر جذر التجربة.
ربما لهذا السبب نعثر على أخطاء بل على كوميديا من الأخطاء ونحن نقرأ روايات يكتبها أناس عن عوالم لا تخصهم، وأذكر أن روائيا صديقا اعترف لي ذات يوم بأنه جرّ بطله من بيروت إلى مخيم تبعا لمتطلبات الحكاية مما جعله أقرب إلى الكاريكاتور، بحيث يثير لدى القارئ السخرية بدلا من التعاطف!
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *