أريج جمال
اقترح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على جمهوره في دورته السابعة والثلاثين المنتهية مؤخرا فيلمين يطرحان قضية الاغتصاب، الأول أرجنتيني تحت عنوان “باولينا” لسانتياغو ميترا، والثاني إيطالي عنوانه “الاختيار” لميكيلي بلاسيدو.
يحكي كل من الفيلمين قصة امرأة تختطف وتتعرض للاغتصاب، ثم تلقى بهمجية في الشارع، وفي الفيلمين تحاول البطلة أن تتجاوز حادثة اغتصابها نفسيا، لكن المحيطين بها لا يبدون القدرة ذاتها على التجاوز أو النسيان.
أزمة الاغتصاب التي لا تمر منها المرأة المنتهكة بسلام، على الأقل ليس قبل أن تسقط لزمن طويل في اكتئاب ما بعد الصدمة، هي هنا الأزمة التي تفجّر رغبة عارمة في الاستمرار في الحياة، بأعين تطارد النور كالفراشات، وهذا هو الطرح الجديد، الذي يعرضه الفيلمان، دون سابق اتفاق بالطبع.
رغبة في الغفران
باولينا بطلة الفيلم الأرجنتيني تلعب دورها دلوريس فوتزي، هي امرأة حقوقية تغير مهنتها من محامية إلى معلمة لمادة حقوق الإنسان، ومن العيش في العاصمة بيونس آيرس تنتقل إلى قرية حدودية، كي تعمل في مدرسة للمراهقين، تسعى باولينا من خلال دورها كمعلمة أن تعرّف هؤلاء الذين لا يرغبون في المعرفة، شيئا عن حقوقهم المستلبة كبشر على هذا الكوكب.
من خلال هذه الفكرة تتشكل شخصية البطلة على مهل طوال الفيلم، فهي المرأة الحقوقية التي ستختطف وتتعرض لاغتصاب عنيف من شخص مخدوع جرّاء خيانة عشيقة سابقة، هو نجار واسمه سيرو، ثم ستترك عارية لساعات في البرد، غائبة عن الوعي، إلى أن تنهض مرتعشة وتعود دون أن يساعدها أحد.
إن أول سؤال قد يلمع في ذهن المتلقي هو، كيف سترى امرأة مثل هذه، أعني تؤمن بالمبادئ الحقوقية العالمية بشدة، كيف سترى الحادثة؟ وكيف ستتصرف إزاءها بعيدا عن متاهات العقل المكبّل للأحاسيس.
ومع ذلك لا يتلقى هذا السؤال ردا مباشرا، فالفيلم نفسه لا يسرد الأحداث بشكل مرتب زمنيا، الزمن ضائع على نحو ما ومشتت كما هي الأحداث في ذهن البطلة باولينا بعد الاغتصاب.
يفجّر الفيلم لقطات وجمل حوارية عابرة عن نموّ الألم داخل نفس البطلة، ثم يعود إلى رواية المشاهد التي وقعت فيها هذه اللقطات والحوارات لاحقا في عملية استعادات متلاحقة، فمن الحديث مع الطبيبة النفسية التي تعجز عن فهم باولينا مع أنها أكثر شخص يفترض أن يكون قادرا على مساعدتها، وحتى الأب الذي لا يفهم لماذا ترفض ابنته أن يحاكم هؤلاء السفلة، أو على الأقل تتركه هو القاضي النافذ للانتقام لها.
هناك أيضا الحبيب الذي لم يستطع فهم موقف باولينا ولا دوافعها، ويتخلى عنها خارجا من المشهد بسبب العمى الذي تسبب فيه الغضب. لا تجاهر باولينا بدوافعها في هذا الموقف الذي يكبح انفعاله، تبقى مثل شجرة تنتصب في وجه الريح لوحدها، تسعى إلى إيجاد صيغ أخرى للتعافي بعيدا عن الانتقام الذي “لن يغيّر شيئا في ما حدث”، تذهب لتطلب كلمة من سيرو مغتصبها، كلمة ربما تساعدها على التجاوز، تعده ألاّ تبلغ عنه، لكنه لا يستجيب.
وقبل أن يفهم المتلقي نفسه دوافع باولينا، كان الجمهور يتذمر أيضا في قاعة السينما، تعرف باولينا أنها حامل وتقرر في خطوة أكثر إرباكا أن تحتفظ بالطفل الذي يريد الجميع أن يتخلص منه، لأنه ابن زنا.
وهذا هو سؤال الشريط السينمائي، الذي لا يتم التلفظ به مباشرة، لماذا تدفع المرأة غرامة الجريمة وهي التي لم ترتكبها؟ الأم يجب أن تفقد أمومتها، لماذا يلعن الجنين دون ذنب جناه هو؟
باولينا تريد أن تسامح، وهي تعيش صراعا داخليا، ارتسم عنفه على نحو مؤلم على وجه الممثلة دلوريس فوتزي قسمات متشنجة بشكل مستمر، تعرف باولينا أن العالم الظالم هو الذي صنع هذا المغتصب، لذا ليس من العدل أن يعاقب هذا الرجل وحده، ترفض باولينا خيار الانتقام السهل وتقرر أن تواجه العالم بشجاعة.
أما في فيلم “الاختيار” تختلف الأسئلة وطريقة صياغتها، فالفيلم يميل أكثر إلى الميلودراما، وتبدو شخصياته مرتبكة على نحو ما، ولا تظهر دوافعها النفسية لا في النهاية كما باولينا، ولا مع تتابع الأحداث، رغم أن الفيلم يروى في زمن مرتب.
تعيش لورا معلمة الموسيقى للأطفال، تلعب دورها أمبرا أنجيوليني، مع زوجها جيورجيو يلعب دوره راؤول بوفا، قصة حب هادئة، لكنها متعكرة قليلا لأنهما غير قادرين على إنجاب أطفال.
الاختيار.. لماذا
تختطف لورا في مساء ما، وتتعرض للاغتصاب من شخص تجهله الكاميرا وفي أجواء بين الهذيان والحلم، تلقى لورا أيضا في الشارع قبل أن يعثر عليها أحد المارّة ويساعدها في العودة إلى البيت، تكون لورا بطبيعة الحال محطمة وغير قادرة على التكلم، وتغرق في نوبة بكاء طويلة.
وإذا كانت أزمة باولينا تبدأ بعد حادثة الاغتصاب، فإن أزمة لورا تبدو أنها قد وقعت قبل حادثة الاغتصاب، الأزمة تنسج هنا من رغبتها في أن تكون أما، ومن إصرارها النفسي على إنكار ما حدث كما لو أنه لم يقع أصلا، الأمر الذي سيشوش ذهن المشاهد، وفي لحظة ما يصبح غير قادر على معرفة ما جرى للورا فعلا.
بالطبع يثور الزوج، ويرفض أن يحتفظ بالطفل، هو الذي لم يكن قد تعافى بعد من فكرة أن زوجته قد انتهكت، وأن رجلا آخر قد عاشرها، يجد نفسه الآن مضطرا للتعامل مع إصرار زوجته ليس فقط على نسيان الحادثة، لكن أيضا على اعتبار أن هذا الابن هو ثمرة حبهما، بعد أول ليلة تعاشرا فيها في الزمن الذي تلا الاغتصاب.
وكما تقاتل بولينا الجميع بموقفها الشجاع، فإن لورا تتجاهل ردود الأفعال على موقفها، بنوع من الإنكار النفسي الذي تعيشه وحدها وسط عجز الآخرين عن الفهم، أو عن متابعة التطورات، إنها لا ترغب حتى في التعرف على المغتصب، لأنها حذفت هذه الحادثة بالكامل ولا تريد أن تفكر إلّا في هذا الطفل القادم، ليس كابن لحادثة زنا، إنما هو ابنها هي، ولزوجها وثمرة حبهما. ينهار الزوج في النهاية مقرا لزوجته ما تريد وسط مشاهد مليئة بالنواح وصوت الموسيقى العالي، كما لو أن هذا الطفل هو الهدية الجميلة للاغتصاب.
_______
*العرب