نجوى بركات
“ليفياثان” مخلوق بحري أسطوري، له رأس تنين وجسد أفعى، ورد ذكره في التوراة في أكثر من موضع، وقد استخدمه توماس هوبز عنواناً لكتابه الذائع الصيت في الفلسفة السياسية، والصادر عام 1651 في إنجلترا. المصادفة هي ما حملتني إلى مطالعته مجدداً، بعد سنوات طوال، وكنت قد قرأته في عشرينياتي، مع كتاب “الأمير” لماكيافيللي، وأصابني، في حينه، بصدمة عمري، إذ كان يصوّر البشر بطريقة سوداوية، ترى فيهم مجموعة كائناتٍ، لا تقيم اعتباراً إلا لمصلحتها الفردية، ولا وجود لأي تعاضد أو تكاتف في ما بينها. وقد اكتشفت، كما في كل مرة، أنه قد يكون مفيداً، لا بل ضرورياً وحيوياً أحياناً، معاودة قراءة أمهات الكتب والمؤلّفات المؤسِّسة، على ضوء سنيّ التجارب التي عشناها، والأحداث التي وقعت للعالم من حولي، وهو ما قد يُكسبها في أعيننا فهماً آخر وقيمة مخالفة. يقع كتاب “الليفياثان” في أربعة أقسام، تحمل العناوين التالية: “في الإنسان”، “في الدولة”، “في الدولة المسيحية”، وأخيراً “في مملكة الظلمات”، إلا أن ما استوقفني، هذه المرة، وهو ما صنع، في الواقع، شهرة الكتاب، هما القسمان الأولان، حيث يتعرّض هوبز لمفهوم “حالة الطبيعة”، ويعالج تكوّن الدولة والقوانين المدنية. “حالة الطبيعة” مفهوم مختلق، خاص بالفلسفة السياسية، أوجده منظّرو “الميثاق الاجتماعي”، بدءا من القرن السابع عشر، ويشير، بشكل فرضي، إلى حالة البشرية قبل نشوء المجتمع، وقبل إنشاء الدولة خصوصاً. تجدر الإشارة إلى أن إنجلترا كانت تعيش حربا أهلية ضارية، حين خاض هوبز بحثه هذا، فكان أن أرجع أسبابها إلى سوء فهم للطبيعة البشرية لدى الفرق الدينية التي كانت كل منها تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتعمل على نشر أفكار خاطئة عن قيمٍ كالعدالة والأخلاق، وإلى طريقة مغلوطة أيضاً في تنظيم الحياة الاجتماعية. واستناداً إلى مفهوم “حالة الطبيعة”، يرى هوبز أن البشر متساوون في صراعهم على السلطة، وفي مقدرتهم الطبيعية على حيازتها، بحيث يصبح أساس المساواة في ما بينهم، هو امتلاك كل منهم ما يكفي من المقدرة الطبيعية على قتل الآخر. إن تساوي البشر كقتلة محتملين هو ما يجعلهم يشعرون، جميعاً، بانعدام الأمان نفسه، وبأنهم مهددون من أشباههم، في حين أن جل ما يسعون إليه هو البقاء على قيد الحياة، وتأمين استمرارهم بشتى الوسائل الممكنة والمتاحة. وبذلك، هم لا يخضعون إلا لما يسمّيه هوبز “الحق الطبيعي”، ومفاده بأن لكل فرد الحرية المطلقة باستخدام قوته ومقدراته لحفظ حياته، وهو ما يؤدي، حتماً، إلى الفوضى، وإلى اقتتال الكل مع الكل. ولأن الكل يتبع مصلحته الخاصة بشكل أوّلي، فلا بد من أن يسعى البشر، منطقياً وطبيعياً، إلى الخروج من حالة الطبيعة “المميتة” هذه، حيث لا يمكن لأي طرفٍ أن يفوز بشكل حاسم ونهائي. هكذا يصبح حتمياً أن يقرر كل فرد توقيع عقد اجتماعي مع بقية الأفراد، حيث يتنازل كل منهم عن سلطته لصالح سلطة مشتركة هي الدولة، أو “ليفياثان” كما يسميها هوبز، أي “الإله المميت”، صاحب السلطة المطلقة والمقدرة الفريدة على ضمان سلامة حياة الجميع وممتلكاتهم. بمعنى آخر، ليس نشوء الدولة سوى نتيجة ميثاق بين الأفراد، يسلّمون بموجبه الحاكمَ حريتهم، وحقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم. أخيراً، يرى هوبز أن التضامن بين هذا الشكل، أو سواه من الجماعات، ليس سوى أمر مؤقت ومحدود، لا يبدّل، بشكل أساسيّ، سمة الفرد الذي هو بطبيعته وحداني، لا يجد “أية متعة، وإنما على العكس آلاف أسباب التعاسة، في معاشرة أبناء جلدته، بما أنه لا توجد سلطة قد فلحت في ضبطهم وردعهم جميعاً”. نظرة هوبز إلى الإنسان متشائمة، وفوق الاحتمال. لكن، ثمة فيها ما يحاكي واقعنا اليوم، ويدعو إلى التفكير…
________
*العربي الجديد