هبة الأعمى



د. عبدالله إبراهيم

حينما نشر «ديدرو» كتابه «رسالة عن العميان في خدمة المبصرين» في عام 1749 ظهر الكتاب الصغير غافلا عن اسم المؤلف، فما عرف عامّة القرّاء صاحبه، لكن أصدقاؤه عرفوا ذلك، فغمروه بالثناء، ومنهم «فولتير» الذي كتب له «قرأت في سرور بالغ كتابك الذي يذكر الشيء الكثير ويوحي بشيء أكثر. وكنت منذ أمد أقدّرك أعظم التقدير، بقدر ما احتقر أولئك الأغبياء الذين ينقصون من قدر ما لا يفهمون». وقد اختار «ديدرو» للتعبير عن أفكاره شخصية عالم إنجليزي ضرير يدعى «سوندرسون» ليكشف من خلاله المسار الناجح لحياة الأعمى الذي آمن بحواسه، ما خلا البصر، في معرفة العالم من حوله، وشقّ طريقا ليكون عالِما يشار إليه بالبنان، وابتكر طريقة للكتابة الناتئة تماثل ما توصل إليه «بريل» فيما بعد، فقصة ذلك العالم الضرير هي التعبير التمثيلي عن مجموع الأفكار التي أراد «ديدرو» طرحها. واعتبر «ديورانت» في كتابه» قصة الحضارة» أن «ديدرو» نحل سيرة «وهمية» لرجل زعم وجوده لتوضيح أفكاره هو عن وظيفة الحواس، وهذا ديدن بعض المؤلفين الذين يدّعون توثيق أفكارهم بأمثلة مستعارة من الواقع.

وفي سياق عرضه لحياة العالم الانجليزي «سوندرسون» اقتراح «ديدرو» كتابة تعرف باللمس يسهل التواصل بها مع الآخرين، وقدّم تصوره عنها اعتمادا على تجربة ذلك الضرير الذي كان يستعين بأنامله لاكتساب معارفه الرياضية والهندسية، فألّف كتابا بعنوان «مبادئ الجبر» لا يعرف المبصرون أن مؤلفه أعمى «إلا من خصوصية بعض البراهين التي ما كان لإنسان يبصر أن يصادفها»، ثم أنه لجأ، بسبب حبّه للرياضيات، وحاجته للمال، إلى إعطاء دروس في مجال اهتمامه، ونجح فيها نجاحا لافتا لما تمتّع به من قدرة اجتذاب اهتمام السامعين، ولجأ إلى طريقة مبتكرة، إذ «كان يخاطب تلاميذه وكأنهم فاقدو البصر: غير أن الأعمى الذي يجيد التعبير بوضوح للعميان لابد أن يكسب الكثير في مخاطبة الذين يبصرون». ولما نجح في مسعاه أصبح يدرّس الرياضات في جامعة كيمبردج «بنجاح مدهش، وألقى دروسا في البصريات، وقدّم محاضرات حول طبيعة الضوء والألوان، وشرح نظرية الإبصار، وعالج آثار العدسات، وظاهرة قوس قزح، ومواد أخرى عديدة خاصة بحاسة البصر وعضوها»، وبذلك برهن العالم الكفيف على «أن اللمس يمكن أن يغدو أكثر حساسية من البصر، بعد أن يكتمل بالمران، ذلك أنه وهو يمرّ بكفيه على سلسلة المداليات، كان يميز السليمة عن المزوّرة، على الرغم من أن هذه الأخيرة زوّرت باتقان كبير لتخدع خبيرا يتمتّع بعينين سليمتين، كما كان يحكم على إتقان آلة حاسبة من مروره بأنامله على تقسيماتها، وتلك هي بالتأكيد أشياء أكثر صعوبة على التحقيق من أن يقدّر المرء باللمس مدى الشبه بين جذع تمثال والشخص الذي يمثّله».
دافع «ديدرو» عن حاسة اللمس، البديلة عند العميان عن البصر، دفاعا مجيدا، بقوله «اللمس هو الذي يُعلمنا بوجود التعديلات التي لا تحسّ بها الأعين، والتي لا تلمحها إلا حين تحيط تلك الحاسة بها علما، لكن تلك الخدمات متبادلة، فالذين يتمتعون بنظر أكثر حدّة من اللمس، تكون الحاسة الأولى لديهم هي التي تحيط الأخرى علما بوجود المحسوسات، وبالتعديلات التي فاتها إدراكها بشبب ضآلتها، فلو وضعوا لك، من غير علم منك، ورقة أو مادة أخرى متجانسة، رقيقة ومرنة، بين الإبهام والسبابة، لما كان إلا لعينك أن تعلمك بأن لمس هذين الإصبعين لن يحصل على الفور. وألاحظ بشكل عابر، أنه سيكون أصعب إلى ما لا نهاية خداع أعمى بتلك المسألة مقارنة بخداع شخص تعوّد أن يكون مبصرا».
لم يكن عرض قصة العالم الأعمى بذاتها هو هدف «ديدرو» إنما العبرة القابعة فيها، والهدف الضمني الذي يختبئ في تضاعيفها، ف»ديدرو» يريد إثارة الشك في العقلانية التي صاغت وعي الناس عبر التاريخ بألا وسيلة لإدارك العالم سوى العقل، وبذلك أبعدت وظيفة الحواس، وأخرجتها عن دائرة البحث، وجرى اختزالها إلى ما دون الإدراك الصحيح، وتجربة حياة «سوندرسون» هي المعادل الموضوعي لذلك، لأنها تهزّ تلك المسلّمات الموروثة، فبالبصر استبدل اللمس، ومضى يطوّر هذه الحاسة التي كفته عن الإبصار؛ فكفاءته الحسية جديرة بالاهتمام، ويصح تعميمها لو افترضنا وجود شعب كفيف «نخلص من هنا إلى أن شعبا من العميان يمكن أن يكون لديه مثّالون، وأن تتحقق له من التماثيل المنفعة نفسها التي نجنيها نحن منها، وهي إدامة ذكرى المكْرُمات وذكرى الأشخاص ذوي المكانة الخاصة في النفوس. بل لست في شك من أن الاحساس الذي سينتابهم لدى لمس التماثيل سيكون أكثر حدّة بكثير من إحساسنا ونحن نراها، وأي عذوبة سيشعر بها عاشق، عرف الحب بأعمق جوارحه، وهو يمرّ بيديه على مفاتن فيتعرّف عليها، حينما يأتي الوهم الذي ينبغي أن يؤثّر في العميان بقوة أكبر من تأثيره في المبصرين، ليبعث الحياة في تلك المفاتن! بل من الممكن أيضا، كلما كانت متعته في تلك الذكرى أكبر، أن تقلَّ معها حسراته عليها».
ومعلوم بأن الاقتراح الفكري القائل بدور الحواس في اكتشاف العالم بديلا عن العقل أو بمعاضدته، كان قد بدأ في الظهور منذ بداية القرن الثامن عشر، ولاقى جفاء وإنكارا في أول الأمر، ولكن سرعان ما حلّت التجربة الحسيّة محلّ الفرضية العقلية، فتحققت الكشوفات العلمية الحديثة. ولم يعد خافيا أن «ديدرو» كان يريد زعزعة حجة أصحاب العقل المطلق، باقتراحه النظير الموازي لهم، وهم القائلون بتعذر نيل المعرفة بغير البصر، وخفض قيمة الحواس الأخرى، وإبطال دورها.
_________
*الرياض

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *