الليلة الأخيرة على ضفاف الفرات


فراس الهكّار

خاص ( ثقافات )

لم أعد أذكر جيداً إن كان قلم الرصاص الذي تركته ورائي ما زال في ذات الصفحة التي كنت أقرأها في ليلتي الأخيرة هناك على ضفاف الفرات حيث غرفتي الصغيرة، كل ما أذكره هو وجه أمي وهي تودعني الوداع الأخير وعدد أشجار النخيل من بيتنا إلى جسر الرشيد حيث تسليت بإحصائها كي أنسى خوفي من برابرة الليل الذين سرقوا أحلامنا وبدلوها بكوابيس مزمنة.
أنهيت توضيب حقيبتي، وجردت محتويات مكتبتي الصغيرة مع الفجر، أحرقت الكتب التي تتحدث عن العروبة والإسلام، وأرشيف صحيفة الحزب الحاكم، ورميت كراس المنطلقات النظرية في قاع كيس الزبالة، ومزقت كل ما يتعلق بالعمق الاستراتيجي والبعد الميتافيزيقي والصراع العولمي والقضية المصيرية وسحبت سيفون رأسي حتى يزول كل ذلك الخراء من تلافيف دماغي…
لم يكن بوسعي أخذ شيء معي، أودعت أحلامي في صندوق حديدي أحكمت إقفاله ودفنته تحت شجرة العنب، بعد أشهر ذبلت أوراق الشجرة، جفت عناقيد العنب الأحمر، تقول أمي زرعنا شجرة العنب يوم مولدك، وهي حزينة على فراقك لذلك ذبلت أوراقها وماتت.. 
لا تعرف أمي أن الأحلام الكبيرة تقتل أصحابها، تلك الأحلام لم يتسع لها الصندوق الحديدي، ولم تحتملها شجرة العنب فماتت، جيد أنّي لم أحملها معي كانت قتلتني.. شكراً لك أيتها الشجرة الوفية لأنك افتديتني.
الأيام الأخيرة هناك كانت صعبة على الجميع باستثناء سدنة النار، كنت غير معتاد حينها على صوت قذائف المدفعية، كان صفير القذيفة من فوق غرفتي يقطع سلسلة أفكاري، يجزع قلبي وأتوقف عن القراءة، التوتر يجعلني انتف شعر رأسي من مقدمته اليمنى، عادة لا أعرف من أين اكتسبتها ولطالما وبختني أمي عليها خوفاً عليّ من صلع مبكر.
عتمة الليل والبرد القارس يجعلان للسهر مع الأتراب وبعض الأقارب في مضافة العشيرة لذة، خاصة أن أولئك الذين كانوا قد أنهوا خدمتهم العسكرية يجلسون مستعرضين خبراتهم أمامنا حتى من كان يخدم منهم في المطبخ أو في القلم لم يكن يوفر حفلة موسيقية مسائية تقيمها الفرقة العسكرية المجاورة لأحلامنا إلا ويفرد عضلاته فيها متحدثاً عن بطولات لا نعرف نحن معشر المستمعين مدى صحتها..ويبدأ الجدل بينهم عن قوة الأسلحة وأنواعها ولا تنته الرهانات إلا مع شريط أحمر يحمل خبراً عاجلاً ليكون سبباً آخر في تجديد الجدل حول المصداقية والفبركة إلى أن ينقطع التيار الكهربائي فتتوسع الحدقات وترتاح الحناجر قليلاً.
لم يكن بوسعي حينها إلا أن أبادرهم بالحديث عن رواية أنهيت قراءتها، وكي أضفي على السهرة بعداً درامياً من وحي الواقع لا بد أن أحكي لهم عن رواية تحكي عن مأساة حقيقية لأشخاص عانوا ما عانوه بسبب الاستبداد، كمعظم المراهقين السياسيين كنت مفتوناً برواية القوقعة، وكنت أنا الآخر أفخر بأني استطعت تحميلها من الإنترنت لأنها ممنوعة ويحظر تداولها. كم كنت ساذجاً حين اعتقدت للحظة أني قرأت نفائس الأدب السياسي، لم أكن أحلم حينها بأن أحصل على مديح الكراهية، ثم لاحقاً السكاكين التي غادرت مطابخها لتجز أعناق الأبرياء، وأن تجمعني ظروف المأساة مع الكاتب لأحصل على نسخة مهداة لي، باسمي أنا، إضافة إلى صورة تذكارية أعلقها على جدار غرفتي الافتراضية.
هناك صور لم أجرؤ يوماً على نشرها، رغم أني لم أخف حين التقطتها. قبل رحيلي بيوم واحد، بحثت كثيراً عمن يمتلك الجرأة ليخرج معي لأطوف في أحياء المدينة المهدمة، وأوثق حجم الدمار الذي أصابها، رافقني صاحب حظ عاثر على دراجة نارية لم نترك زاوية أو شارع إلا دخلناه، التقط الصور وأمضي بسرعة، وقفت كثيراً عند مكتبة دار الثقافة، ثاني أكبر مكتبة في سورية، احترقت فيها أهم المراجع والمخطوطات، ثم انتهت جولتي عند التمثال البرونزي العملاق، كتبوا عليه بعد سقوطه باللهجة الرقّية “باچر أحلى” التقطت له بعض الصور وكأني أعرف أن اللصوص سيبيعونه قبل أن يأتي “باچر” وهذا ما حصل. كان ثمنه واقفاً أغلى بكثير من ثمنه مستلقياً في الساحة العامة، مئة رجل قضوا من أجل أن يسقطوه وخمسة فقط هم من تقاسموا ثمنه حين باعوه. 
ليس ما حدث معي فريداً هناك فظائع كبيرة حدثت لم تجد من يوثقها، حين عبر الباص نهر الفرات شعرت أني انسلخ عن جلدي إلا أن الخوف من المجهول أنساني آلام السلخ، قرب الحاجز كان هناك كلب أسود رأيته كيف كان يدحرج بين قدميه رأس رجل تعفر وجهه بالتراب وغيبت آثار الكدمات ملامحه، لا أعرف أين بقية الجسد ولم يكن لدي الجرأة على السؤال، وبدأت الأسئلة تجول في مخيلتي، من هذا، ما الذي فعله في حياته كي تكون نهايته بهذه الطريقة؟ 
ماذا لو عرفوا من أنا؟ هل سأكون عشاءً لهذا الكلب الأسود، لا اعتقد سيخشون أن يتسمم من أفكاري اليسارية ويصبح نباتياً لا يأكل اللحم، إلا أن أفتوا له أني كافر وأكل لحمي طازجاً يدخله الجنة بلا حساب.
_________
صحفي سوري

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *