*عباس بيضون
لا يمكننا أن نتخيل أدبا مسالماً. أدب كهذا يكتفي بمباركة الواقع ومديح تقاليده وتراثه وأعرافه، والتغني بنمط حياته ونظامه السياسي وقيمه الدارجة والمعلنة. أدب كهذا قد يوجد وقد يكون له انموذج، لكنه في هذه الحال لا يفعل سوى مطابقة الواقع، ولن يكون سوى شهادة طيّبة فيه وليس بينهما مدى أو مسافة، فهما في درجة من التدامج والتطابق. مثل هذا الأدب، إن وجد، يصعب أن يكون حقاً أدباً، لن يكون سوى دعاوة فحسب، سوى تسويق لواقع ما وترويج له. قد يكون للدعاوة وظيفتها ولها بالتأكيد فعاليتها التجارية والأدب يُشترى ويباع، لكنه مع ذلك ليس تجارة. وليست له وظيفة تجارية. إنه كل شيء إلا أن يكون إعلاناً تسويقياً. بل الأمر أكثر من ذلك لا نستطيع ان نتخيّل أدباً يرضى عن الواقع ويبشر به. مثل هذا ليس أدباً فالأدب أياً كان نمطه ونوعه محتجّ. الأدب، أياً كان، صدامي يرتطم بالواقع ويندد به. الأدب إذا صح القول محارب مهما كان، إنه اتهامي نقدي غاضب متوجّس رافض، هذه الصفات إذا اجتمعت كلها أمكن أن ندرجها في العنف، نعم الأدب عنيف حتى وإن لم يظهر هذا على سطحه، الأدب عنيف والعنف عضوي فيه، بل العنف من أسسه وقواعده، ليس العنف هنا في لفظيته ولا في عصبيته، فقد يكون الأدب يائساً فجائعياً، ذلك لا ينفي أن العنف في طيّاته وأن العنف في رؤياه. قد يكون الأدب يائساً لكن هذا اليأس قرين للرفض وقرين للتأبي وللرفض، قد يكون الأدب مرحاً فرحاً بالحياة متغنياً بها لكن فرحته عند ذلك لن تكون رضاً سطحياً وقبولاً ساذجاً وإذا كانت كذلك بطُل الأدب أن يكون أدباً، الفرح بالحياة قد يكون تعالياً عليها أو تسامياً بها، عند ذلك سيكون الفرح نفسه صدامياً. حتى في هذا الفرح نجد هجومية وعنفاً، إذا جرّدنا العنف من مظاهره الدموية التدميرية واعتبرناه موقفاً عضوياً وجوهرياً، اعتبرناه لوناً من عدم الرضا وعدم القبول، لوناً من النقد والتمرّد والعصيان. إذا اعتبرناه كذلك جاز لنا أن نزاوج بينه وبين الأدب والفن، جاز لنا أن نجده في أصل الأدب والفن وفي صلبهما. لنقل إن الأدب والفن يصدران أساساً عن السلب، الأدب والفن سلبيان وهما بالتأكيد محتجان ومعارضان وليسا مصالحَيْن ولا مسالمَيْن. إذا كان الأمر كذلك أمكن لنا أن نرى الأدب مرؤساً حاداً قاطعاً، مهما كانت مدرسته ومهما كانت تغطيته. إنه محاولة للقطع مع الواقع، محاولة للاحتجاج عليه وعصيانه، لذا لنبدأ من مقدمة جوهرية هي أن العنف مكوّن من مكونات الأدب والفن.
هذا لا يعني ان الأدب امتداح للعنف ففرق بين ان يكون عنيفاً في داخله أو أن يكون العنف في صلبه وان يقيم من العنف ديناً وعقيدة وغاية. فرق بين أن يكون الأدب مرؤساً وقاطعاً وبين أن يتلذذ بالعنف ويمارس في العلن سادية فاقعة. فرق بين أن يكون محارباً وبين أن يتغنى بالحرب ويجعل منها مثالاً، عنف الأدب متأتٍ من أنه يرتطم بالواقع والارتطام لا يكون إلا عنيفاً. عنف الأدب متأتٍ من صداميته وعصيانه فهو ليس دموياً ولا عدوانياً، بل يمكن القول إن في عنف الأدب احتجاجاً على العنف، فآخر ما يتطلع إليه الأدب تمجيد العنف وآخر ما يتطلع عليه أن يُحوّل العنف تسلية وألهية، كما هو بالنسبة لكثيرين. إن التلذذ بالعنف ليس شأن الالياذة على كونها ملحمة حربية وليس شأن فرانكشتين على ما فيها من رعب، وليس شأن الروايات البوليسية على ما فيها من جرائم، وعلى ان الجريمة مدارها.
عنف الأدب
الشعر العربي القديم يستهل بالحماسة، وهي الباب الذي استهلّ به أبو تمام والبحتري مختاراتهما، لا يسعنا أن نجد في الكثير من شعر الحماسة لمسة رحمة أو احتجاج على القتل ليس في شعر العرب ملاحم، لكن مقطعات حربية. هذه المقطعات جعلت من معارك، دارت في الأصل بسعف النخل أو انتهت بدون جرح أو قتل، جعلت منها فلذاً ملحمية. هذه المقاطع تتركنا في حيرة، فهل فيها تعلق طفولي بالعنف وتلهٍ به، هل فيها تلذذ بالحرب وتسلٍّ بها؟ يبدو أن الشاعر المحارب كان في هذه الأشعار لاعباً في المعركة.
أصاولهم يوم الحديقة حاسراً
كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
قلما نجد في هذه القصائد صورة للقتل أو القتلى كما نجد في الالياذة، فالحرب قلما تترك جروحاً مؤلمة وفقدانات مريرة. وإذا حدث ذلك فالشاعر يلجأ إلى باب آخر هو باب الرثاء، وهذا هو متمم بن نويره يرثي أخاه الذي فتك به خالد بن الوليد بدون أن نجد في المرثية ذكراً لهذه الفظاعة أو نعياً لهذه المعركة الخاسرة أو تنديداً بالجريمة. يتراءى لنا أن إيقاع الحرب دخل في أوزان الشعر، إذ نجد في البسيط والطويل مثلاً هذا الإيقاع الحربي، ثم أن الشاعر كان يرتجز قبيل المعركة فكأن ارتجازه جزء منها، لكن المعركة في قصيدة ابي تمام «السيف أصدق إنباءً من الكذب» تختلف، وكذلك الحدث الحمراء للمتنبي فهنا نشعر بدرامية المعركة وبقسوتها، نشعر هكذا بمعاناة المقاتلين ونرى جثثهم وقد انطرحت وملأت الجبل. ليس في هذا ما يستدعي اللعب واللهو، إنها دراما إنسانية عاصفة وصراع كياني. يمكننا أن نقرر على سبيل المثال أن العنف في شعر المتنبي من مقومات كماله الشعري، فهذا العنف الذي يتدفق قسوة وسخرية واحتقاراً هو في صميم رؤيا لا تسلس للعالم، بل تجابهه وتصطدم به وتجده ناقصاً مريضاً ومختلاً.
يمكننا أن نجد في نعي المعري للعالم وحديثه المتصل عن الموت وجهاً آخر لنقده الذي شمل عصره وزمنه. في الحالين لفظ للعالم وزراية به ونعي له يغدو بموجبه أجرد وبلا معنى. في هذه الرؤيا قسوة على الذات لكن فيها أيضاً بالدرجة نفسها عنفاً على العالم وإنكاراً له يقرب من المحو والإبادة. هنا نجد العنف في أساس شعر له عالمه ورؤياه. نجد العنف ذروة موقف رافض وصدامي.
كانت الرواية العربية الحديثة في بدئها نصوصاً فولتيرية ودعوات تنويرية، والعظة والعبرة والتبشير بمبادئ الثورة الفرنسية والسجال الأخلاقي نواتها وصلبها. ثم كانت الرواية الرومنطيقية المجبولة بالانكسار والشفقة وتهويمات المرض والموت. لم تبدأ الرواية حقاً إلا مع نجيب محفوظ الذي كانت شخصياته المصنوعة من علاقات الواقع ترتطم به. كان هذا بالتأكيد عنفاً أخرس. فالشخصيات تسبح في هذا الفضاء القاسي الذي يبدو هو الواقع نفسه، وتتقلب في جو من الحتم والجبر هو علاقات هذا الواقع. هكذا نصل إلى عنف صميمي، عنف عضوي. هو في محيط هذا العالم وفي صلبه. عنف ليس استعراضياً ولا فولكلورياً ولا مصنوعاً وإنما هو فضاء العالم ومناخه وجوّه.
الحرب الافتراضية
سقوط فلسطين جعل الفترة الممتدة منذ هذا السقوط، وربما حتى أيامنا هذه، مدموغة بفكرة وحيدة هي الحرب. الحرب كانت عنوان مرحلة لا نعرف إذا ما زالت مستمرة. المفترض أننا منذ سقوط فلسطين نتهيأ لها وهي تختصر من ذلك الحين المعيار الذي نقيس عليه أفعالنا، وهي مختصر حياتنا، وهي بالطبع مستقبلنا الذي نبني باتجاهه. كانت الشعوب على هذا جيوشاً افتراضية وقفز الضباط على هذا الأساس إلى السلطة وتحكمت من ذلك طغم عسكرية، وتم تجويف المجتمع والسياسة وتفريغهما. بالطبع لم يكن ذلك كما ثبت بعد ذلك إلا تمويهاً زائفاً. كنا نعيش حرباً افتراضية مستمرة، ولما وقعت الحرب لم تكن الجيوش التي تلهت بالحكم مستعدة لها والطغم الحاكمة اكتفت بالاستعراضات العسكرية، ولم تكن الحرب، التي هي مؤسسة متكاملة، نصب جهودها. لكن الأدب الذي كان في موازاة هذه الحرب الافتراضية ولد نظيراً لها أطلق عليها هذا الاسم الخاص «الأدب الوطني» وتفرع منه «الشعر الوطني». الاسم كما نرى ملتبس إذ يضمر فرزاً بين أدب وطني ومقابله أدب لا وطني أي أدب عميل وخائن. وهذا فرز غير منطقي وليس له ما يعادله.
«القصيدة الوطنية» و«الأقصوصة الوطنية» حملا في أحيان عناوين صارخة «حبيبتي ميليشيا» على سبيل المثال. وليست هذه العناوين مجرّد كليشيهات فحسب بل إن الكليشيه الوطني يكاد يكون صلب النصوص التي تحملها، فليس فيها سوى صنمية الأقانيم والأسماء التي تشكل في مجموعها خطاب تلك الحرب الافتراضية. الحرب الافتراضية التي هي كل مادة هذه النصوص. أمام الهزائم والتردي السياسي والاجتماعي ليس في الشعر الوطني والأدب الوطني بعامة سوى لفظية بطولية انتصارية، سوى ذلك العنف الاستعراضي الذي لا يخلو من الاحتفال الطفولي بلعبة العنف وقد استحال لعبة. ليس هناك سوى صنمية هذا العنف وسوى الكليشيه الحربي. ليس هناك سوى لفظية الحرب ولفظية الهجوم ولفظية الانتصار ولفظية البطولة. ينعكس هذا في الشعر الوطني الذي يضمّ بدءاً من أبو سلمى سلالة طويلة من الشعراء ولا يزال النص الوطني حاضراً إلى الآن ولا تزال سلالته مستمرّة.
لكن هذا التعريف لا يشمل كل الشعر الذي جعل من فلسطين موضوعه. هناك بالتأكيد شعراء لا يندرجون فيه. يمكنني في هذه العجالة أن أسمّي محمود درويش كمثال. كل هذه الحرب الافتراضية ليست بحال مادة شعر درويش ولا قبلتها. شعر درويش الذي هو شعر الحروب الخاسرة وشهداء الحروب الخاسرة يرى إلى الأرض التي حرثها العنف وإلى العنف وقد استحال على الأرض خسارة. ليس هناك هذا العنف اللفظي ولا صنمية العنف أو استعراضه ولا النشيد البطولي والانتصاري. ليس هناك سوى عواقب الحرب وما تخلفه. ليس هناك سوى استبداد الحكام الذي يخلفه العنف نجد بالطبع احتفالاً طفولياً بالعنف في شعر محمود درويش، لا حرباً افتراضية ولا تلذذاً سادياً بالقسوة والدماء. بالعكس من ذلك تتحول المأساة الفلسطينية إلى أوذيسه كونية وإلى استدعاء لكل الشتات الإنساني.
_______
*السفير الثقافي