شيرين أبو النجا
«الواقع أنه ليس بمقدور باحث أن يدرس الاتجاهات الأدبية والجمالية والروحية والنفسية والفكرية في هذه الفترة في عالمنا العربي، من دون أن يأخذ في الاعتبار الدور المهم الذي لعبته مجلة «الآداب»، ليس في تصوير الوجوه المختلفة للفكر العربي وحسب، بل كذلك في تكوين المفاهيم الجديدة عن الفن والحياة». هكذا وصفت سلمي الخضراء الجيوسي مجلة «الآداب» البيروتية في كتابها «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»، الذي ترجمه عبدالواحد لؤلؤة، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في عام 2001».
أسس سهيل إدريس مجلة «الآداب» عام 1953 (وتبعتها مجلة «شعر» التي أسسها يوسف الخال عام 1957)، في بيروت التي كانت حينذاك مركز الشعر الطليعي، بل إنها كانت المركز الثقافي الذي احتل الصدارة أكثر من القاهرة. حين قرأت افتتاحية العدد الأول (1953)، والتي كتبها سهيل إدريس، انتابتني مشاعر مختلطة. كانت الافتتاحية ترسم خط المجلة الفكري في شكل عام انطلاقاً من احتياجات المجتمع العربي في خمسينات القرن العشرين. وكانت الرؤية الأيديولوجية للمجلة تدور في فلك القومية العربية والعروبة والوحدة.
ما كتبه سهيل إدريس قبل ستين عاماً، يُشكّل جل ما نسعى إليه الآن، إذ كتب: «وهدف المجلة الرئيس أن تكون ميداناً لفئة أهل القلم الواعين، الذين يعيشون تجربة عصرهم ويعدون شاهداً على هذا العصر: وبينما هم يعكسون حاجات المجتمع العربي، ويعبرون عن شواغله، يشقون الطريق أمام المصلحين، لمعالجة الأوضاع بكل الوسائل المجدية, فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على مدار الأيام أن يخلقوا جيلاً واعياً من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم، وأن يكونوا نواة الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلة، بواسطة كتابها وقرائها، في العمــل القومي العظيم الذي هو الواجب الأكبر عـــلى كل وطني».
كان هدف المجلة، كما أعلنته الافتتاحية، هو ترسيخ قيمة الإبداع والفكر بوصفهما مرتكزين لا غنى عنهما لأي نهضة مجتمعية، وأثارت المجلة الكثير مـــن القضايا التي تحولت إلى معارك فكرية، وهو ما يجعلنا نتحسر على تحول الإبداع الآن إلى رفاهية لا يقدر عليها الكثيرون، وهبوط المعارك الفكرية إلى مستوى يصل بها إلى ساحات القضاء.
استمرت مجلة «الآداب» ستين عاماً (من 1953 وحتى 2012). توقفت المجلة حين توقفت معالم ثقافية عدة في العالم العربي، أي في لحظة مرتبكة كان يبدو ظاهرها ثورياً في حين كان يخفي باطنها سيناريوات عالمية لم نلحظها في فترة التألق الثوري الطوباوي، ومركزه «الشارع». إلا أن توقف مجلة «الآداب» كانت له خصوصية ملحوظة.
ففي الآونة الأخيرة كان صوت مجلة الآداب، أو بالأحرى ملفاتها (الطائفية، الشيوعية، الماركسية، الوجودية، القضية الفلسطينية…)، مع الافتتاحية التي دأب سماح إدريس على كتابتها منذ رحيل المؤسس سهيل إدريس، تسبب الكثير من الإزعاج للسلطات العربية. إنها ملفات تفضح المسكوت عنه، المنسي، المُراقب، المُصادر، غير المستحب. وهي ملفات تدعو إلى إعادة طرح السؤال، حيث أصبح السؤال نفسه خطيئة تقود إلى الزنزانة بسهولة. وبالتالي كان من المنطقي مصادرة المجلة في معظم البلدان العربية، وإذا أضفنا إلى ذلك أزمة المجلات الثقافية في شكل عام (تراجع عدد القراء، سوء التوزيع، تكلفة الطباعة) يُمكن أن نفهم السياق الذي قرر فيه القائمون على المجلة احترام التاريخ الطويل والتوقف عن الصدور في شكل ورقي في خريف 2012 مع وعد بعودتها في شكل الكتروني. وعادت بالفعل أخيراً مجلة «الآداب» الكترونياً (في منتصف شهر تشرين الأول- أكتوبر 2015). لكنّ المفاجأة أنها أنشأت أرشيفاً كاملاً لكل الأعداد التي صدرت على مدار الستين عاماً. ويشرح سماح إدريس في الافتتاحية كيفية ذلك، يقول: «في نهاية العام 2013، اتّفقنا مع مكتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت على أن تقوم بتصوير الأرشيف الورقيّ كاملًا، وفق أفضل إمكانات التصوير المتاحة؛ ثم يعْمد فريقٌ متخصّصٌ في المكتبة إلى إنشاء «ميتاداتا» لكلّ مادّةٍ على حِدة، بحيث يَسْهلُ على المتصفّح الوصولُ إلى مبتغاه. وهذه الميتاداتا غزيرةٌ ودقيقةٌ ومفصّلةٌ أحيانًا، حتى لتَصحّ تسميتُها «المعلومة العميقة» (قياساً إلى «الدولة العميقة») لأنّها تغوصُ في ما وراء المعلومة الواضحة»؛ وسيكتمل هذا الأرشيف في نهاية عام 2016.
وإذا استعدنا كلام سلمى الخضراء الجيوسي عن أهمية مجلة «الآداب» لكل باحث، فيُمكن أن نؤمن على ما جاء في افتتاحية سماح إدريس أن أرشفة أعداد المجلة لهو «حدثٌ ثوريٌّ بكلّ المعايير الأكاديميّة والمعرفيّة والقوميّة والنهضويّة، إنْ أُحسِنَ استخدامُ المادّة المؤرشَفة. فلا مفرّ من أن تغتني مساراتٌ بأكملها نتيجةً لهذا الجهد الجبّار».
تعود «الآداب» وأرشيفها لتبعثا بعض الحياة في الحالة الثقافية الراكدة والمؤجلة منذ فترة ليست بقصيرة. تعود «الآداب» لتقدم مساحة إبداع ورأي حر، ولتُعيد تنوير العقل الذي استكان واطمأن.
________
*الحياة