‘على فراش فرويد’: الذات في مواجهة الجسد


ممدوح فرّاج النّابي


قارئ رواية «على فِراش فرويد» لنهلة كرم يقف منذ جملة الاستهلال التي ينفتح بها النص “أوصلني حديثي معه إلى فراشه” على نصّ إشكالي سواء على مستوى الموضوع الذي يتطرّق إليه أو على مستوى الشخصيات، وأيضا على مستوى تشكيل النص وتقنياته، فالكاتبة تنقاد إلى غوايات التجريب، بدءا من استحضارها لشخصية عالم النفس الشهير فرويد، كشخصية أساسيّة في النّص لها حضورها الماديّ بتساؤلاتها وحواراتها التي كانت بمثابة اللُّعبة التي سعت من خلالها السّاردة لاستبطان الذَّات وتعريتها في مواجهة مع أَناتها، وكأنّ فرويد أشبه بالمرآة التي تقف أمامها الذات في لحظات الاعتراف.
الذات والمرآة
يتميّز العمل الروائي بالجرأة في كسره للكثير من التابوهات، وهو ما دفع بالكاتب صنع الله إبراهيم لأن يصفها بأنها «رواية جريئة لموهبة ناضجة لا تهاب مقارعة المحظورات كافة في سبيل الصدق».
هذه الجرأة لا تبدأ بالحديث المستفيض عن الجنس، وذكر العلاقات التي تتمّ عن طريق طرف واحد، كالرّجل أمام المدرسة، ونورا في مرحلة سابقة من حياتها، أو علاقات بين طرفين من نفس النوع كما في حالة مريم ونورا في الواقع، ونورا وغادة عبر الاستيهامات، أو إقامة علاقات عبر أوضاع شاذّة، مريم ومحسن، وبعضها علاقات أشبه بالكاملة عبر الهاتف، مريم وإلهامي، ولا تنتهي عند الحديث عن الحجاب والتمرد عليه، الذي يأتي ليس كنوع من المغايرة أو حتى لمخالفة أنساق قيمية، بقدر ما هو تمرد على حجب الذات ومواراة باطنها عن ظاهرها، وهو ما تحقّق قبل نهاية الرواية بمعرفة البطلة نورا لزياد الذي قادها في درب مِن المصالحة مع الذات، لاسترداد أحلامها القديمة التي وأدتها تقاليد التنشئة وأنساق المجتمع، فحقّقها لها وهو ما كان طريقا لاستعادة هذه الذّات التي أجادت السّاردة في خلق نقيضها من خلال صورة مريم، فجعلت منها النقيض لنورا المسالمة، وما فشلت نورا في تحقيقه بسبب طبيعة شخصيتها الخجولة والخائفة والمتردّدة، نجحت في تحقيقه عن طريق شخصيّة مريم الجريئة.

التسامي بالحب
لم يأتِ الحديث عن الجنس عابرا، أو بالإشارات والتلميحات، وإنما كان بإسهاب وبألفاظ علنية، لم تعتد عليها الذائقة العربية في رواية تكتبها أنثى، وأيضا بأوصاف تُعَدُّ لدى البعض خادشة للحياء، مع أن كُتب التراث حاوية لأكثر منها.
فعقبة كونها أنثى حاولت الراوية تجاوزها بالكتابة في الجنس «حتى أشعر بحرية لا أمتلكها» وبذلك يأتي الجنس كتعويض عن حالتي الحصار والقمع اللتين واجهتهما في طفولتها ومن مجتمعها أيضا، لذا في مغامرتها لم تقف عند عتبة الذات النسوية النمطية، بل شرّحت الذّات مِن الداخل وتأملتها في مرآتها كنوع من مواجهة الذّات لأناتها، لا مواجهة الذّات في مرآة الآخرين كما دأبت المدوّنة النِّسوية في الكتابة.
تحتكم الرواية في بنائها إلى صراع يتوزّع ما بين صراع الذات مع واقعها الخارجي المتمثّل في البيئة التي فرضت حصارها على الطفلة نورا بقوانين تُفرِّق بينها وبين الذكر، وأخرى ترى في جسد المرأة وما يطرأ عليه من تغيُّرات فيزيولوجية عارا وعيبا، فتصرخ الأم في وجهها بألا تفتح ساقيها، وعندما تأتي لها الدورة تعاملها كأنها ارتكبت إثما.
وما يتعرض له جسدها من انتهاك في صورة الختان، إلى الآخر الذي يرى في جسد المرأة حقا لانتهاكه تارة بالنظر أو باللمس، وأيضا ثمّة صراع في الرواية ليس بين الشخصية ونقيضها على مستوى الواقع بقدر ما هو صراع بين الذّات وداخلها، وبين أحلام الذات وواقعها المُجْهِض لها، ومِن ثمّ عندما يتحقّق للذات التمرّد على ما يُعيقها تنجح على نحو ما فعلتْ نورا بالبدء في كتابة روايتها، ومريم باستعادة ذاتها بالفن عندما انشغلت بالمعرض الذي جهّزتْ له وافتتحته بعد سلسلة من ندوب الذات وجراحاتها المادية بعلاقتها بمحسن، والنفسيّة بعلاقتها مع إلهامي الذي تُحبّه وتمنحه جسدها إلا أنّه يأبى، وما أن يتخلى عنها بالزواج من أخرى بعد رفضها لعرضه، اعتقادا منها أن الزواج يقتل الحبّ يتزوج بزميلتها في المكتب، وكنوع من الثأر لذاتها تنتقم لها في صورة جسدها الذي تمنت أن تمنحه له ورفض، فمنحته بيسر ودون توقع لآخر (محسن) حتى يحقق لها ما فشلت فيه مع إلهامي، وقد تأتي الاستعادة بالحب كما فعلت مريم مع شريف ونورا مع زياد كسعي للخلاص ورأب للجروح وصدوع الذات وهي تبحث عن ذاتها.
لم تقف الرواية عند حالة الانكسار من الحب التي تُعاني منها الفتيات خاصّة في مراهقتهن، وسعيهن إلى التعلّق بفتى الأحلام الذي يدغدغ أحاسيسهن بكلماته لا فرق إنْ كان سائقا لميكروباص يتحرّش بالفتيات بالأغاني التي يضعها في الكاسيت، أو مثقفا لعوبا (كما في صورة محسن)، وإنما قدّمت صورة دقيقة عن أوجاع الفتاة وأحلامها، وهواجس الخوف من الأنوثة والمراهقة وتمرد أعضاء الجسد ومن انتهاك جسد الفتاة بالختان.
أيضا في ظلِّ المتغيرات الاجتماعية التي حلّت بالمجتمع عقب موجة انتشار ظاهرة الدعَاة الجُدد وانتشار الحجاب، واستبدال شرائط الدّعاة بشرائط عمرو دياب، وانكسار الأحلام كما في صورة هاجر التي كانت تودّ أن تدخل كلية الألسن فانتهى بها الحال في مدرسة للأطفال مرتدية الإسدال، فقد جرفتها دوامة الحياة. كما تُعرِّي صورة المُثقف الذئب الذي يُوقع ضحاياه باسم الأدب، دون تحامل عليه بتقديم الصّورة الأكثر إيجابية عن هذا المثقف في الأخذ بيد الآخر، وإعادته إلى شاطئ الحياة الآمن. كما في صورتي خالد الذي شجّعها على نشر روايتها، وزياد المثقف الذي قادها إلى تحقيق أحلامها الصغيرة، بارتداء ملابس التنس القصيرة، وأيضا بخلع حجابها وطلاء أظافرها، وهي الأشياء التي جعلتها تتسق مع ذاتها.
الشيء المميّز أيضا هو مهارتها في سبك حكايتها، التي تأتي معظمها من منظور راو إلى مروي له، يكون المروي له ضالعا في إثارتها لاستكشاف المناطق المجهولة بما تخفيه من محرّم ومغبون، مُتحكِّمة في شخصياتها النسائية ونزواتها بلغة رشيقة مُعبِّرة عن أوجاع الذات وإخفاقات الحبّ، ولوعة الهجر، وجذوة الشبق، وانكسارات المهزوم، وخوف المحبّ على حبيبه. وثمة شريط لغويّ مُحكم تمرره السّاردة يحوي مقولاتها عن الحياة والحبّ والسّعادة، أشبه بأمثولات وحكم.
تدرك الكاتبة العلاقة الوثيقة بين علم النفس والأدب، فتدمج المقولات العلميّة المستمدّة من كتابات فرويد وآرائه في التحليل النفسي، في سياق النص دون أن تفصل بينها وبين ما تسرد، اللهم إلا إشارات عبر التنجيم لتفصل بين سردها وهذه المقولات، وهو ما جعل السّاردة تغوص في بواطن شخصياتها، وتقدمها في كافة حالاتها. وقد تنوعت هذه الشخصيات بين الإشكالية كمريم وإلهامي والضد كنورا وهاجر وشريف ومروة التي تجسد صورة الفتاة الشغوفة. الشخصيات في ثنائيات كاشفة لتوتراتها الداخلية وأفكارها.
______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *