شفرة دافنشي فضاء الرواية وأداء الفيلم




أحمد ثامر جهاد


خاص ( ثقافات )

من دون أن يعني ذلك أنه السبيل الوحيد للنجاح، يحدث أحياناً وفي ظروف دنيوية دقيقة أن لا شيء يخدم العمل الثقافي أو الفني أكثر من محاولة البعض حظره والتضييق عليه. مثلما أن نيل شخصية ما شهرة واسعة وجاذبية آسرة قد لا تحققه وسيلة بارعة بقدر الإصرار على العزلة والتزام الصمت. إلا أن كلتا الحالتين لا تصحان تماماً لتفسير حدث بحجم شيوع رواية ” شفرة دافنشي ” ولا لتوصيف عوالمها الناجزة.

من زاوية الشهرة الأدبية نجح الروائي الأمريكي دان براون في جعل اسمه عابراً للقارات بصدور روايته ذائعة الذكر (شفرة دافنشي – 2003) التي وصلت مبيعاتها إلى أكثر من 40 مليون نسخة وترجمت إلى ما يزيد عن عشر لغات. ولم يكن حدوث هذا الأمر مصادفة ولا ضربة حظ موفقة، حينما ينظر بجدية إلى الدوي المتسارع للرواية بوصفه انجذاباً متوقعاً لدفع المحرم إلى دائرة الضوء من جديد. وبالنسبة للعمل الذي نحن بصدده تبدو المعاني الكلية للرواية مظهراً من مظاهر إعادة اكتشاف (المقدس في التاريخ) بكل ما يتأتى لمعارف العالم ما بعد الحداثي وفنونه من جرأة السؤال حول مصير الإنسان عارياً من أي رباط ميتافيزيقي، وهو يستجيب هذه المرة بمواجهة حساسة لرغبة التمرد الأصيل في معاينة وجوده الخاص عبر تجريد الحياة الإنسانية من دلالاتها الدينية. 

سنجد أنفسنا كقراء في أفق ثقافي مختلف، طالما لم تفلح حملات التشهير بالروائي الأمريكي ولا سيل التهم المؤذية التي وصفت بها روايته، كخطاب للشر وغواية شيطانية خبيثة، في صرف الانتباه عن امتياز ما ندعوه بضربة الرواية الحاذقة في تحديات عصر الارتياب. إنها الرواية الحدث التي تحولت بعد انقضاء فترة وجيزة تقارب ثلاث سنوات إلى فيلم سينمائي سيزيد العمل شهرة والروائي أرباحاً مضاعفة وان جاء مخيبا لآمال السينمائيين. 

أمر كهذا لم يكن ليحدث في السنوات الماضية بهذه السرعة، لكنه بفعل وسائل العصف المعلوماتي يبدو ممكن الحدوث اليوم. ويمكن لنا ان نرى ما هو ابعد من ذلك حينما نتأمل باهتمام الكيفية التي بها تحولت رواية شفرة دافنشي في حمى سباق وسائل الإعلام المختلفة ومواقع الانترنيت الساعية لعرضها والتعريف بها إلى ما يشبه الماركة المسجلة التي تضع في دائرة الحرج اللاذع أي مثقف معاصر في العالم من أن لا يكون له رأيه فيها. 

• رواية وفيلم وثقافة شعبية:
” شفرة دافنشي “.. الرواية والفيلم على السواء سيجذبان مهتمين ومتابعين متحدرين من ثقافات وديانات واهتمامات متباينة تؤشر بمجملها حالة من الهوس البشري القديم بكشف وثائق الأسرار الكبرى للتاريخ، ذلك بمجرد الاقتراب من تفكيك بناء الموروث المقدس وإعادة تركيبه بشروط الإبداع الإنساني الحر. وفي قلب ذلك النزوع السردي تنتظم أطياف من الوعي الجمعي ممثلة بحكايا شعبية غريبة وأخرى شاذة تتحدى في معارف وأزمان مختلفة رسوخ رواية الواقع التاريخي الرسمي ومعناها النهائي.

لقد كتب دان بروان شفرة دافنشي وفي نيته جعلها رواية شعبية من الطراز الأول تضمن له النجاح والشهرة. وطموح من هذا النوع ليس غريباً على براون المولع بقصص الإثارة والخيال، وكانت الموسوعة الحرة (ويكبيديا) قد وصفته بالقول: “دان براون مؤلف أمريكي لقصص الخيال والإثارة الممزوجة بطابع علمي وفلسفي حديث بأسلوب مشوق مكنه من تحقيق أفضل المبيعات، رواياته حققت رواجاً كبيراً بين الأجيال الشابة في أمريكا وأوروبا “. ليس خافياً أن روايات الخيال العلمي والإثارة هي نمط ثقافي شعبي شائع ومتطلب جدا من قبل الجمهور العريض. ولا يعني ذلك أن من اليسير في معترك صناعة الثقافة الغربية أن تكون بين ليلة وضحاها كاتباً شعبياً تحظى بتقدير أوساط مختلفة من القراء، ما لم تكن تمتلك قصة جيدة ترغم الجماهير المليونية على الاستماع إليها مراراً والتجادل بشأنها. وبخصوص شفرة دافنشي تذكر بعض الإحصائيات أن الرواية تجاوزت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً إلى ما يصطلح عليه بـ(الكتاب القنبلة) وهو الامتياز الذي لا يحظى به أي كاتب ببساطة. 

قد يرى أحدهم من منظوره الخاص أن الرواية الشعبية هي عمل وضيع أو بضاعة رخيصة لكاتب فاشل، لكنه لا ينفي استمتاعه المألوف بصنوف شعبية أخرى: كالأغاني أو الروايات البوليسية أو أفلام الرعب أو قصص المغامرات المصورة التي تسرد حيوات مجنونة لمجرمين خطيرين أو إرهابيين يتوعدون العالم بالفناء. كما ليس بيننا من يستطيع التغاضي عن أعمال كثيرة أدهشت ملايين القراء والمتفرجين كـ(ألف ليلة وليلة، شارلوك هولمز، دراكولا، رحلات جليفر، هاري بوتر.. الخ) ولا حتى إنكار شهرة كتاب لامعين مثل: أجاثا كريستي، ستيفن كنغ، ماريو بوزو وآخرين. ومع رواية “شفرة دافنشي ” يمكننا القول إن ركوب مغامرة من هذا النوع بالنسبة لروائي لم يحظ سابقاً بنجاح لافت، لن تصبح ممكنة ما لم يضع هذا الروائي جانباً كل مخاوفه من ردود الفعل المحتملة شعبية كانت أم مؤسساتية تجاه الكثير مما تثيره روايته من جدل وتأويلات وأساطير وعلامات استفهام.

بعد أن عمل في التدريس وكتابة الأغاني، نشر براون أولى رواياته ” الحصن الرقمي “عام 1998 وأتبعها لاحقاً بروايتين لم تحصدا اهتماماً ملحوظاً مقارنة بالنجاح الساطع الذي واتاه مع روايته “شفرة دافنشي ” التي اعتمدت المزج بين التحليل الفني والبعد الفلسفي في إطار سرد تشويقي وبناء محكم. وبهذا البناء الذي يحبس الأنفاس ويستعير من السينما تقنياتها استطاع “براون ” الحط من هيبة البناء الروائي الكلاسيكي وفخامته الصارمة، مضحياً بالقيم النخبوية المعقدة من أجل اجتراح كتابة واضحة تحافظ بذكاء على غموضها الداخلي وعلى إمتاعها المتحقق بصياغة عصرية مشوقة ولغة يسيرة وحدث جذاب وبناء مؤثر. فهناك صور في الكلمات تبين أن ” الولع بالصورة، والرغبة بالتصوير ورسم المشاهد، رغبة قارة في أعماق الكتاب، يحاولون من خلالها تجسيد أعمالهم وإبراز تصوراتهم وتحقيق تأثيراتهم المرجوة في المتلقين والقراء”1. ومع هذه المقدرة على توظيف مؤثرات الصورة السينمائية أدبياً يكون اللعب على المرجعيات المتشعبة للمبنى الروائي قدر الرواية المكتوبة في عصر هيمنة الفن السينمائي، لاسيما ” أن الإنسان قد أصبح صورة والعالم كله تحول إلى فضاء بصري/ صوري “2 وما عاد ثمة مجال لدخول المنافسة هذه بالتعويل على الأسلحة القديمة فقط. بالمقابل فإننا داخل حقل الكتابة والفن لسنا بحاجة إلى غايات خفية يصعب إدراكها لإثارة وتوجيه الانفعال الإنساني المطلوب في قضية ما. 

تعرض شفرة دافنشي أحداثا درامية شائكة تتناول فصلاً حساساً من تاريخ المسيحية، عبر الادعاء بان السيد المسيح تزوج من مريم المجدلية التي أنجبت له بنتاً تدعى سارة. وعليه فإن دم المسيح ما زال متوارثاً في نسله إلى يومنا هذا. وتحاول المجموعة الأسقفية الكاثوليكية المتشددة “أوبوس داي ” جاهدة منع انتشار هذا السر مخافة من زعزعة سلطتها الدينية على عقول أكثرية مسيحية حول العالم. والخطر الأكبر بالنسبة لجماعة الـ”أوبوس دي ” يتمثل بوجود جمعية دينية سرية تأسست عام 1099 تدعى (زيون) تسعى إلى كشف هذه الحقيقة وجلاء أسرارها من أجل إعادة روح المسيحية الحقة التي خانها أتباعها بالخداع والإكراه. وتبين الأحداث اللاحقة أن الرسام والمخترع الإيطالي ليوناردو دافنشي والعالم إسحق نيوتن والروائي فكتور هوجو كانوا من بين أبرز أعضاء الجمعية السرية المحظورة “زيون ” التي حملت معها هذه الأسرار الدينية الخطيرة منذ الحملات الصليبية، وبدماء بعض أعضائها قررت حماية اللغز المقدس. 

إن شفرة دافنشي التي وضع رموزها العصية ليوناردو دافنشي في بعض أشهر أعماله الفنية كـ”الموناليزا والعشاء الأخير” هي ذاتها مفتاح الحقيقة الغائبة التي تشير إلى مكان دفن مريم المجدلية وبحوزتها كل هذه الأسرار الكبيرة تحت الهرم الزجاجي لبوابة متحف اللوفر. ألغاز دافنشي المعقدة هذه تقود روبرت لانجدون (يؤدي الدور الممثل توم هانكس) وصديقته صوفي (الممثلة أودري تاتو) – وهي بحسب الرواية آخر المتحدرين من نسل يسوع المسيح – إلى حل لغز الكأس المقدسة وإعادة اكتشاف مكانة الأنثى المسيحية التي حمت السر القديم واستحقت قداسة نبوته. 

ومن متحف اللوفر تبدأ الأحداث المتسارعة عشية مقتل حارس المتحف، عضو جمعية ” زيون “جاك سونيير على يد الكاثوليكي المتشدد “سيلاس ” أحد أعضاء الأبوس داي. ويقود التحقيق في مقتل سونيير هذا إلى الاستعانة بالبروفيسور وخبير الرموز روبرت لانجدون الذي يجد نفسه منذ البداية ضحية شكوك المحقق فاش (الممثل جان رينو) وهو بدوره أحد المنتمين لجماعة “أوبوس داي” التي تبقى تطارد لانغدون وصوفي بين باريس ولندن بأوامر فاتيكانية عليا إلى أن يتم اكتشاف اللغز. ليس مبالغاً القول إن مسار الرواية وصراع شخصياتها يلمح بشكل أو بآخر إلى الصراع القائم في عالمنا بين المتشددين وأضدادهم، سيما مع تصاعد مظاهر العنف الديني والمذهبي في غير مكان من هذا العالم. كما تطرح الرواية الفيلمية صورة مقربة للواقع الإنساني حينما تظهر شخصية روبرت لانجدون بطابع أخلاقي غير إيماني. شخصية مثقفة وقلقة من سيطرة ذكريات الطفولة القاسية التي يظهر مغزاها حقيقة أن لانجدون لم يلتزم في حياته بتعاليم الدين المسيحي، مدركاً شدة ولعه بعالم الفنون والرموز القديمة، لكنه كان استنجد يوماً بذكر المسيح، حينما سقط وهو طفل صغير في بئر عميقة ملامساً للمرة الأولى صورة الموت المؤكد. ومن متحف اللوفر وبه تبدأ الأحداث وتنتهي.

• حكاية سينمائية:
من الصعب على المشاهد أن ينكر على المخرج الأمريكي رون هوارد الحاصل على جائزة الأوسكار عام 2002 الجهد الكبير الذي بذله في السيطرة على الأحداث المركزية للرواية خلال تقديمه سرد فيلمي استمر ساعتين ونصف وكلف قرابة 125 مليون دولار. ولنؤكد هنا أن المخرج باعتماده على “نظريات السرد السينمائي الهوليودي الذي ترتكز على بنية الصراع المركزي بين الأبطال ” 3 قد اختصر بمهارة إخراجية ملحوظة قرابة العشرين فصلاً الأولى من الراوية في المشاهد الأولى للفيلم، تحديداً قبل واقعة هرب لانغدون وصديقته صوفي خارج متحف اللوفر. لكنه في الوقت نفسه أخفق في الإتيان بجديد سينمائي حينما بدا ملتزماً إلى حد كبير بتقديم نسخة أكاديمية من الرواية. وهنا تكمن المفارقة بين براون وهوارد: ففيما وظف الأول بذكاء عقل المخرج السينمائي في كتابة روايته الشيقة، انساق الأخير إلى فخ الخيال الروائي لدى صناعة فيلمه السينمائي. ولنا أن نتصور هنا أن براون سيبدو أقل ضجراً من المخرج رون هوارد الذي كان عليه أن يفكر ملياً بسبل إعداد هذه الراوية المتشعبة إلى الشاشة، لكي يحسن التصرف بالمادة السردية لما يقارب خمسمائة صفحة، على الأقل بطريقة تبعده عن سوء تقدير خصوصية كل فن بذاته. وحتى في حال نظرنا إلى شفرة دافنشي كفيلم سينمائي تشويقي بمعزل عن أصله الروائي، لن يكون أمامنا سوى دراما سينمائية شارحة، غير مبتكرة، تمزج الخطابات المطولة بالحيل الهوليودية المتوقعة. 

وبسبب أصالة العلاقة بين الرواية والفيلم وتداخلها لا يستطيع المتلقي لدى مشاهدته فيلماً سينمائياً مأخوذاً عن عمل أدبي التخلص من رغبته الشديدة في المقارنة بين النسختين الفنيتين لاستخراج حكم متسرع يتأسس غالباً على سؤال وحيد ومحدد يختزل في تقليديته تاريخاً نظرياً وفنياً متشعباً: أيهما كان الأفضل بالنسبة لنا، الراوية أم الفيلم؟ وكما السؤال قد لا يبدو الجواب موفقاً دائماً.

بعيداً عن فرضيات الأغراض التجارية المشروعة تعد السينما منذ ظهورها قبل أكثر من قرن منجذبة للرواية بقدر انجذاب الأخيرة للسينما. بل يمكن القول إن ثمة عشقاً دائماً بينهما، تواصل من نوع فريد بين الغريمين الفنيين المهيمنين ما زالا على ذائقة العصر بلا منافس. ورغم الخصام الذي يتسيد المشهد الفني من حين إلى آخر، جذوة العلاقة تلك لا يمكن أن تنطفئ. فمع هذا الحب ثمة تخادم مقبول ومصالح مشتركة. وبهذا فان الرواية والفيلم ما فتئا يتصارعان لكسب ود المتلقي وإمتاعه، سرقة قلبه وتأجيج ألطف مشاعره. وقد لا تكمن المشكلة في تعامل كلا الفنين أحدهما مع الآخر، بل في تحديد الأهداف وتوجيهها بطريقة تحسن تقدير استطيقا كل فن بحد ذاته. 

كثيراً ما يقال في الأدبيات السينمائية أن السينما تكون بارعة فيما تعجز عنه الرواية والعكس صحيح. مع أن هذه الفرضيات الكلاسيكية ما عادت تصمد أمام بعض المحالات الإخراجية المجددة في سينما اليوم، فقد باتت هناك حلولاً وسطية ونقاط التقاء عدة يمكن أن تضمن النجاح للطرفين والأمثلة عديدة على ذلك، خاصة في الأفلام التي يسعى مخرجوها إلى خلق نسخهم الإبداعية المقتبسة من الأدب بحس تجريبي يبعدهم عن النقل الحرفي للرواية عبر تقديم كتابة سينمائية تأويلية للأدب بالصوت والصورة. اعتبر النقاد أن أسلوب التجريب في السينما يعزز لدى المخرج حريته في طرح تصوره الخاص للنص الأدبي محطماً إلى أقصى حد هيمنة أدبية السرد الواصف واستطراداته عبر معالجة بصرية للسيناريو تذيب المحكي الروائي في المحكي الفيلمي وتمنح الأخير طاقته التعبيرية المطلوبة، وذلك باستخدام طرائق عدة بين الحذف والتقطيع والإضافة والاستعارة وزاويا التصوير ومدة اللقطات والمشاهد. لتكون عندنا هاهنا جدلية من نوع آخر تنتظم فيها كل عناصر الفيلم السينمائي وبلغة مغايرة ليست هي الرواية، على اعتبار أن السينما لا تتكلم إلا لغتها الخاصة – بتعبير رولان بارت. 

إذا سلمنا أن ” هناك سرد أدبي، وسرد سينمائي، كلاهما يروي بوسائله المختلفة. ومن هنا خطورة الاقتباس (الإعداد) adaptation الذي هو في حقيقته ترجمة للسرد الأدبي في سرد سينمائي.”4، سيبدو منزلق المخرج رون هوارد متحققاً بتصوره الذي وجد في رواية شفرة دافنشي خزيناً درامياً كافياً لإثارة حواس المشاهد وجذب انتباهه لغاية تلقي متعة الإحداث المشوقة، وليس هناك بعد ما يمكن إضافته أو حذفه من الرواية دون التضحية بعنصر من عناصر نجاحها الجماهيري. هكذا اختزل هوارد مهمته السينمائية إلى مجرد الحفاظ على الإيقاع التشويقي للأحداث الروائية وتصاعدها الهارموني وإن كان ذلك بمخارج غير مقنعة أحياناً. ولو بدا الأمر على النحو هذا سيكون ” اقتباس الرواية للسينما ليس أكثر من طموح غبي. ولا مبرر لهذه الممارسة إلا الحجج التجارية فقط. ان الاقتباس السينمائي لعمل أدبي لا يفيد إلا بمقدار ما تفيد صورة اللوحة.”5، لكن النماذج السينمائية الجيدة تناقض هذا الحكم النقدي، وتفتح المجال أمام محاولات المخرجين المتواصلة في تسخير الروايات الشهيرة لصالح نجاح أفلامهم على أكثر من مستوى. ومع فيلم رون هوارد ضاعت فرص كثيرة للنجاح ستبدو جلية للعيان إذا ما أقدم يوماً ما مخرج آخر برؤية مغايرة على إعادة إنتاج هذه الراوية في شريط سينمائي يكون أقل تكلفة وأشد اختصاراً. وباستثناء أداء الممثل الإنجليزي ” أيان ماكلين” لشخصية السير لي تيبنج، كان الأداء التمثيلي إحدى اكبر فرص النجاح التي بددها هوارد مع وجود ممثلين مقتدرين إلى جواره، حيث لم يستطع الإخراج إظهار أقصى مواهبهم في مشاهد الفيلم الحوارية الطويلة، إلى الدرجة التي بدا بعضهم غريباً ومنفصلاً عن شخصيته التي ظلت بدورها مصطنعة وغير مؤثرة. ربما يدرك هوارد مع جمهوره أن الممثل البارع توم هانكس لم يقدم أفضل ما عنده في هذا الفيلم، كما لم تضف الممثلة الفرنسية أدوري توتو شيئاً مميزاً يتخطى نجاحها السينمائي السابق في فيلم إيملي بولان عام 2001. ناهيك عن المشقة الكبيرة التي تكبدها الكادر الفني للفيلم من أجل التصوير في أبرز الأماكن الحقيقية التي أشرتها الرواية كمتحف اللوفر وقصر فيليت وكاتدرائية لينكولن بإنجلترا بعد أن رفضت كاتدرائية ويستمنستر ذلك.

• خيال روائي، تابو سينمائي:
رغم الاستقبال النقدي الفاتر للفيلم لدى عرضه في الدورة 59 من مهرجان كان السينمائي لعام 2006 حقق شفرة دافنشي إيرادات كبيرة في شباك التذاكر وصلت إلى 224 مليون دولار في أسابيع عرضه الأولى لينال المركز الثاني في لائحة الأفلام التي تحقق أعلى الأرباح في صالات السينما في أوربا وأمريكا. بالطبع فإن نتيجة كهذه ستكون مقنعة لصناع الفيلم الذين يسعون إلى تقديم فيلم سينمائي ممتع يرتكز على رواية سجالية شهيرة، كانت قد جذبت ملايين الناس إلى اقتنائها رغم فتاوى المنع التي صدرت بحقها في عدد غير قليل من الدول العربية والأوربية. ولم يكن الفيلم أوفر حظاً من الرواية فيما ناله من دعاوى حكومية ودينية تطارده بالمنع والمصادرة. كما رافق عرض الفيلم حدوث مفارقات حتمتها بعض أشكال الحظر المبالغ فيه، إذ إن إقبال الإيطاليين على مشاهدة الفيلم فاق باقي الدول الأوربية، رغم تحذيرات الفاتيكان وبياناته العديدة التي وصلت إلى ذروتها في إنتاج فيلم تسجيلي للرد على أطروحات براون المشككة بالرواية المسيحية الرسمية للفاتيكان بشكل صريح. وبالنسبة للمتابعين ليس أمراً جديداً في معظم المجتمعات شن حملات رأي مضادة لأية أعمال تتخطى دائرة المسموح به مشككة بالمسلمات والعقائد. كيف سيكون الحال إذن حينما تتوجه الحكاية إلى قلب المقدس؟ المقدس الذي يتجلى دائماً وكأنه قدرة من مستوى آخر بتعبير ميرسيا إيلياد.

لاشك أن رواية شفرة دافنشي لامست موضوعاً حساساً بالنسبة للعالم المسيحي وللعقل الإيماني بشكل عام. ولكونها رواية تصدر عن خيال روائي فهي تستند إلى ما لا يمكن دحضه، حتى وإن كان براون قد استهل روايته بصفحة أولى اعتبرها حقائق واقعية أجملت المعلومات الأساسية لما سيأتي من أحداث هامة في روايته. وإذا كانت الرواية قد خلقت عالماً خيالياً يمزج بين مصادر مختلفة في التاريخ والدين والمعتقدات الشعبية وعالم الرموز تاركة لنا حرية تمثلها ذهنياً، فان الفيلم السينمائي لأسباب بنيوية لا يجري استقباله إلا بوصفه غواية مصورة قابلة للتصديق والإقناع. 
وعلى الدوام يحظى تناول المقدسات في الثقافة عامة والسينما بشكل خاص، لما لها من تأثير واسع، بجاذبية خاصة لدى المتلقين إلى درجة تفقدهم أحياناً قدرة التمييز بين الواقعي والمتخيل. وبالفعل وظفت رواية شفرة دافنشي هذه الخاصية بذكاء لافت لتعيد صياغة المعلومة الروائية ضمن إطار تشويقي لا يترك للمتلقي فسحة للتفكير والتأمل، وكأنها بذلك تستعير من السينما طابعها البنائي إلى حد يجوز فيه اعتبار شفرة دافنشي رواية سينمائية بامتياز. وسنعني بذلك التوصيف: أنها رواية كتبت تحت تأثير لغة السينما وبوحي أساليبها في التقطيع والبناء السردي والمزج والنقلات، وكذا المناخ التشويقي والشخصيات الغامضة، بل حتى في استعارة بعض سمات الفيلم المبتذلة، مثل الحلول المفبركة ومفاجآت اللحظة الأخيرة والنهايات السعيدة. واحد الأمثلة العديدة على ذلك الحيل التي لجأ إليها براون في تفسير بعض المواقف التي جرى تخطيها في الزمن المضارع لأحداث الرواية، كما في المشهد الذي تنبه فيه صوفي روبرت لانغدون إلى وجود لاقطة صغيرة في جيبه وضعها العميل الذي اصطحبه من الفندق.. فيعود الأخير بذاكرته لاسترجاع لحظة خروجه من غرفته برفقة عميل الشرطة الذي دس خفية اللاقطة في معطف لانغدون. إنه مشهد فلاش باك روائي خاطف يفسر للمتلقي التباس الحدث الراهن:” عاد لانغدون بذاكرته وحاول استرجاع الأحداث التي تمت منذ كان في غرفته.. اغتساله السريع، ثم ارتداءه ملابسه ثم هناك عميل الشرطة القضائية الذي كان يحمل له معطفه الصوفي بكل أدب ولطف عندما كانا يغادران الغرفة. إن الجو بارد في الخارج سيد لانغدون، قال العميل، فالربيع في باريس ليس في الحقيقة كما تدعيه الأغاني الرومانسية.. فشكره لانغدون ثم أخذ منه المعطف..”6. ومثلما ذكرنا آنفاً كان الطابع السينمائي الملحوظ للرواية هو ما أغرى السينمائيين بنقلها إلى الشاشة عقب صدورها بفترة قصيرة. وليس هذا غريباً في عصر هيمنة الصورة – بأوسع دلالاتها – التي شكلت وما زالت تشكل عقولنا ومدركاتنا الإنسانية. 

ربما يصح الاعتقاد إن دواعي اللغط المثار حول شفرة دافنشي (الرواية والفيلم) تكمن في طبيعة الموضوع بحد ذاته وليس في أسلوب عرضه. وهنا يصبح من المتوقع ان ينقسم الجمهور باختلاف مستويات تلقيه بين معارض ومؤيد لظاهرة المساس بجوهر المقدس، لا سيما معارضة سرود التاريخ المتداولة التي تعني السلطة بشكل مباشر. وبالتالي بات من المتعذر السماح بإظهار تلك التناقضات الماثلة في الحقب التاريخية الماضية ” وبالنسبة لليهودية، وخصوصاً بالنسبة للمسيحية، تجلت الإلوهة في التاريخ. وعلى هذا الأساس، شكل السيد المسيح ومعاصروه جزءاً من التاريخ.” 7. لكن المراقب يؤشر، رغم ذلك التحريم، تنافساً متوازياً بين الفريقين المتخاصمين يتصاعد بقوة في عصر يتسم من جانب بالجرأة وحرية الرأي، وبالتعصب الديني والتطرف من جانب آخر. وسيقدر لهذا الجدل المتفاعل باستمرار أن ينتج أعمالاً من هذا النوع، مثيرة وجديرة بالاهتمام، ولن يتوقف عن توليد المزيد منها، خاصة في مناخ غربي تسوده نظريات نقدية وتحررية جذرية تعيد قراءة الإنسان والتاريخ والمعرفة بدأب وإبداع قل نظيره في باقي المجتمعات. 

وحتى لو تبنى البعض بحماس الرأي الذي يذهب إلى أن: “نجاح شفرة دافنشي هو أكثر بقليل من كونه عارضاً من عوارض فشل التأثير المسيحي “8.. وأن شفرة دافنشي هي بالمحصلة رواية ” مليئة بالأخطاء الواقعية والتاريخية والمنطقية، والتي إذا كان الناس منتبهين لها فإنهم لن يكملوا مشاهدة الفيلم أو قراءة الكتاب، لأن الكتاب والفيلم لن يكونا قابلين أصلاً للتصديق “9.. لا يسعنا كقراء ومشاهدين التقليل من شأن العمل المضني لـ”دان براون ورون هوارد ” وما بذلاه من جهد مخلص انطوى على الكثير من التحليلات والأفكار والتصورات الجريئة التي نشدت في النهاية احترام حرية البشر في حياتهم ومعتقداتهم.



* الهوامش والمصادر:

1- عصر الصورة: د. شاكر عبد الحميد. سلسلة عالم المعرفة. الكويت 2005. ص194.
2- د.عبد الله الغذامي: الثقافة التلفزيونية. المركز الثقافي العربي. بيروت 2004. ص 195.
3- الاقتباس من المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي: حمادي كيروم. سلسلة الفن السابع. دمشق 2005. ص 14 
4- الكتابة السينمائية: بيير مايو/ ت: قاسم المقداد. سلسلة الفن السابع. دمشق 1997. ص101.
5- نفسه. ص 101.
6- شفرة دافنشي: دان براون/ ت: سمة محمد عبد ربه. الدار العربية للعلوم. بيروت 2004.ص81.
7- الأساطير والأحلام والأسرار. ميرسيا إيلياد/ ت: حسيب كاسوحة. منشورات وزارة الثقافة. دمشق 2004. ص 238.
8- شفرة دافنشي حول العالم/ ت: رفيف الساجر. مجلة الحياة السينمائية.العدد59. سوريا. خريف 2006. ص 114.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *