علي عبيدات
خاص ( ثقافات )
المثقف والسلطة إشكالية قديمة بدأت تتجلى بصورة مكتملة بعد الثورة الفرنسية التي أرست دعائم الفكر السياسي هناك وتوجب على معاصريها الكتاب أن يكون لهم رأيهم، وكذلك السجالات التي أسس لها محمد عبده والأفغاني في زمن الأسرة العلوية في مصر حتى نصل إلى بيرم التونسي ومشاكسات الملك فؤاد، ثم إلى عرار والماغوط ويشار كمال وإسماعيل قدري والبياتي والجواهري وأمل دنقل وطائفة لا يمكن حصرها، وانتهى المطاف بالكُتَّاب المعارضين إلى محاربة رزقهم وقوتهم وهم يدفعون الضرائب بسبب مواقفهم.
وفي زمن كالذي نحن فيه اختلط موقف المثقف من السلطة بناءً على مواقفه من جزء آخر منها، على خلاف الأيديولوجية والميول الفكرية التي تجمع المثقف بتلك السلطة وتحفِّزه على القطيعة مع غيرها.
وحول هذا التقت ثقافات بالكاتبة والروائية الأردنية كفى الزعبي التي عرفت كصوت نسائي لا يهدأ في المشهد الثقافي الأردني والعربي وهي صاحبة آراء صارخة يمكن جمعها بين ثنائيتين، الأولى المرأة وحقوقها، والثانية الحديث عن الحرية وهدم السقوف التي تفصل بين الإنسان وحقوقه وانخراط المثقف في العمل السياسي.
وتالياً نص الحوار:
1. كيف ينتهي الموقف السلبي بين المثقف والسلطة؟ هل هذا بتغيير السلطة أم بتعليم المثقف أن يكون مهادناً ولماذا يتوجب على المثقف أن يكون رافضاً على الدوام؟
في البدء أحب أن أشير إلى أن السلطة كمفهوم، لا ينحصر ـ برأيي ـ في السلطة السياسية وحسب، بل هو مجموع سلطات تتشابك فيما بينها في علاقات ديالكتيكية يعيد فيها كل منها إنتاج الآخر. لهذا فإن المثقف، (ومضطرة هنا لأن أستعمل الكلمة التي استهلكت على الصعيد اللغوي، لكننا قليلاً ما نراها مجسدة في الواقع: العضوي، أي المهموم بقضايا مجتمعه والفاعل والمؤثر في حركة تطوره) إذن فإن هذا المثقف العضوي، العربي تحديداً، لا يقف في وجه سلطة سياسية فقط، بل في وجه سلطة ثقافية فكرية سائدة، وفي وجه سلطة عقل ميتافيزيقي لا يزال مهيمناً، وفي وجه سلطة اجتماعية واقتصادية. فلأي سلطة من هذه السلطات سيكون مهادناً؟ وهل بوسعه أن يهادن إحدى السلطات ويعارض أخرى؟ ثم إن امتلاك المعرفة وحده لا يمكن أن يفضي بالضرورة إلى فعل الرفض، لأن الأمر أيضاً مرتبط، برأيي المتواضع، بضرورة تحلي المثقف بعقل نقدي، يؤهله لأن يكرس معرفته في تشكيل رؤية لهذا الواقع بتعقيداته من منظار تحليلي ونقدي، يفكك من خلاله سلسلة العلاقات كي يصل في النهاية إلى أسباب الخلل، ويقدم لها حلولاً. في عالمنا العربي لا زلنا نعيش في واقع تتجلى فيه وتتكالب كل الأشكال الممكنة للسلطات التي تقمع الإنسان وتضطهده، وتهين إنسانيته وعقله، بدءاً من السلطات السياسية التابعة وغير المستقلة، مروراً بالسلطات الدينية الماضوية، وانتهاءً بسلطة الجار الذي لا يدرك مفهوم الآخر ولا يؤمن به. في هذا الواقع يبدو أن المثقف لا يزال بعيداً جداً عن مرحلة تبيح له ترف السؤال عن مسألة الرفض والمهادنة! بل إن طرح هذا السؤال يضعه في مساحة أخرى تجعلنا نتساءل عن جدوى المعرفة وغايتها لديه. بالطبع هذا في حال لم يكن مثقفاً نقيضاً للمثقف العضوي، أي حينما يكون مثقفاً انتهازياً يسخّر معرفته لخدمة مشروع نقيض لمشروع وطنه ومجتمعه، بل وإنسانيته، من أجل مصالحه الذاتية الضيقة.
2. يرى كثر أن الساحة العربية اليوم تماماً كما كانت في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، بكامل انشقاقاتها وتحزب أهلها، فالمثقفون منقسمون في معسكرات مختلفة ضمن دائرة الولاءات المتنوعة، فهل يخدم هذا الأدب ونكون أمام أدب السجون أو أدب المكان والاغتراب مثلاً، أم لا يخدم هذا الإبداع لأن القتل سيد الموقف؟
كل الصراعات التي تجري في الواقع هي مادة للأدب والفن عموماً. الصراع هو جوهر الفن والأدب وعمودهما الفقري. هو كنه الدراما. لذلك فإن الواقع العربي بصراعاته الحادة والدموية، بآلامه وعذاباته، يقدم في كل لحظة مادة غنية للأدب. بل إنه يتوجب على الأدب أن يعكس هذه الصراعات ويجسدها في أعمال لا تتناول الجوانب الإنسانية وحسب، بل تتناول الصراع من جوانبه الفكرية أيضاً عبر رؤية نقدية صادقة. لكنني هنا أود أن أركز على مسألة أجدها مهمة، وهي أن الأدب بذاته لا يحتمل الأيديولوجيا، وليس هو الساحة التي يمكن تطويقها بقيود الأيديولوجيا، فأهم شرط من شروط كينونته هو الحرية، والحرية هنا تقتضي من الكاتب والروائي أن ينظر للواقع من بعيد بحيث يرى كل مكوناته، وأن لا يفرض موقفه على الأبطال والشخصيات فيحركها في مساق رغباته. هذه مسألة دقيقة يجب أن نفهمها بعمق: فثمة رؤية لدى الكاتب ويجب عليه أن يقدمها، ويجب أن يحمل عمله موقفاً ما: سواء كان فكرياً أو فلسفياً أو إنسانياً أو أخلاقياً أو حتى جمالياً، لكن هذه الرؤية وهذا الموقف لا يجب أن يخرجا عن سياق الحدث والصراع الذي تحدده سياقات الشخصيات وتشابكاتها، المرهونة بعلاقات قائمة في حياة النص. وكلما كانت حياة النص صادقة ـ أي غير مفبركة ـ كانت الشخصيات حرة وتتصرف وتتصارع ضمن القوانين التي تحكم واقعها هي وليس واقع الكاتب. ما أريد قوله هنا أن الأدب وكلما كان صادقاً في تعبيره عن السياق، كان حراً، وهذا سيفضي حتماً إلى رؤية شمولية للعمل لن تتناقض مع الرؤى الجمالية والأخلاقية للعالم التي تنضوي تحتها مفاهيم الخير والشر بصراعهما الأبدي، وسنجد أن العمل ينحاز للخير، حتى لو كان الكاتب نفسه منحازاً في الواقع لأيديولوجيا قد تخدم قوى الشر.
3. لم نرَ السجالات الأدبية في انقسامات المثقفين بين الكيانات والمشارب السياسية التي تمثلهم، هل فشل المثقف في استثمار صدام التيارات السياسية لكي يصنع طقس السجالات الأدبية، فالعصف الفكري من تبعات الاختلاف والسجالات وينمي هذا حس الابتكار عند الناشئة، فمالنا لا نرى هذا الطقس الثقافي اليوم؟
أظن أننا رأينا هذه السجالات! لكن وكي نكون موضوعيين ومنصفين، فقد جرت هذه السجالات ـ وهي أقرب ما تكون إلى الشجارات ـ في انعكاس مطلق ودقيق ـ كما لو كنا أمام مرآة ـ للصراع الذي يجري في الواقع: انقسم المثقفون إلى معسكرين كل منهما منحاز إلى المعسكر الذي يؤيده. وهذا أمر طبيعي، أراه أنا – كروائية ـ يصوّر الشخصيات في سياقاتها المنسجمة مع سياق الواقع. بمعنى: لو أنني أردت كتابة هذا الواقع في عمل روائي، فلن أرسم شخصية لمثقف خيالي، بل سأرسم شخصية هذا المثقف كما هو في حقيقة الحال، بتكوينه العقلي الذي لا يشذ عن التكوين العقلي السائد في المجتمع (فبرأيي، غالبية المثقفين العرب ليسوا ثائرين على العقل العربي وعلى المكون الثقافي والفكري والتاريخي لهذا العقل بقدر ما هم أبناؤه وورثته وحاملوه). وهذا بالطبع سيحدد موقفه وولاءاته، التي ينحاز فيها للثقافة السائدة، وللتاريخ، ويدافع عنهما بشراسة، ويلوح بيده مهدداً كلما تعرضا للنقد، كما يفعل أي إنسان جاهل يرفض تعريض المنظومة الفكرية التي نشأ عليها للنقد أو للنقض. هذا أولاً. أما ثانياً فهناك مثقفون يدركون التناقض الجلي بين معرفتهم الحداثية وبين البنى الفكرية الماضوية السائدة، ويدركون أن الصراع القائم الآن (ببعده السياسي والعسكري) هو في نهاية المطاف يخدم المشروع الماضوي، ويكرس تبعيتنا للاستعمار، لكنهم ينحازون لهذا المشروع لأسباب تخص مصالح ذاتية، وهم في ذلك غير معنيين بسجالات نقدية تعري الصراع وتكشف خباياه، بل على النقيض، هم معنيون بتشويهه، وتقديم رؤية زائفة تضلل الرأي العام الذي يصغي لهم. وثمة مثال صارخ على نموذج هذا المثقف: عزمي بشارة.
في هذا المشهد يجد المثقف العضوي الحقيقي، المنحاز لقضايا أمته التي يراها متشابكة فيما بينها، إذ لا يمكن تحرير العقل إلا إذا تحررنا من الاستعمار وتبعيتنا له، يجد نفسه يتيماً يقف وحيداً في مجابهة كل السلطات معاً: السياسية والفكرية والدينية، فضلاً عن سلطة المثقف اليميني الذي يسرح ويمرح في وسائل الإعلام مدعوماً من كل السلطات التي ذكرتها!
هنا نحن لا نتحدث عن وجهات نظر بين مثقفين وطنيين، بل عن صراع حاد بين مشروعين، لهذا فإن السجال الفكري لا يأخذ شكل العصف الذهني من أجل البحث معاً عن حلول للأزمة، بل يأخذ شكل الصراع أيضاً بين مثقفين وطنيين تقدميين يساريين، ومثقفين يمينيين، بعضهم يميني بالمعني الفكري والثقافي، وبعضهم يميني لأسباب انتهازية.
4. هل تتصورين أن نسف وطمس تاريخ المثقف -بالكامل- عندما ينحاز إلى جهة سياسية معينة أمر منطقي، وهل دعم المثقف أو رفضه للأنظمة السياسية معيار للحكم على شخصه وأدبه؟
لطالما بدا لي أن الموقف السياسي للمثقف يختزل كل مواقفه الأخرى: الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والجمالية. لهذا أنا أعتقد وبصراحة أن هذا الموقف السياسي يدعونا بالفعل لإعادة النظر بتاريخ هذا المثقف! المسألة ليست في دعم نظام سياسي أو معارضته. وكي نهبط من التنظير إلى الواقع دعنا نعترف أن الحديث هنا يجري حول النظام السوري. قد نتفق حول التاريخ الديكتاتوري لهذا النظام، وقد نتفق على أننا لسنا معنيين به للأبد، وقد نتفق على أنه ليس النظام الأمثل، لكن ما هو البديل في اللحظة الراهنة؟! البديل هو مشروع ظلامي استعماري، لا يهدف فقط إلى عودة الديكتاتورية الدينية (وهى أشد خطورة من أي ديكتاتورية أخرى) تسحق الآخر الذي لا يرضخ لها ولحقيقتها وتقطع رأسه، بل تهدف أيضاً إلى تقسيم جيوسياسي، وتفتيت الكيانات السياسية، وتحطيم جيوشها وإغراقها في صراعات طائفية لن تودي بنا إلا إلى الهاوية والاندثار التام من خارطة العالم كقوم لهم مشروع وطني، ونتحول إلى جماعات بدائية تقتل بعضها البعض كي تحظى بمساحة في السماء. وستتحول أرضنا العربية إلى مقبرة تصدر كل يوم أرواحاُ جديدة كقرابين نعتقد أننا نرضي بها السماء، علها تمنح سؤال وجودنا معنى ما.
من الذي يحارب هذا المشروع الآن على الأرض غير النظام السوري وجيشه؟ كيف يمكن لنا أن لا ننحاز له وهو الوحيد الذي صمد على الرغم من الهجمة التي شنت عليه وجعلته يوميا يدفع الكثير من الدماء ووضعت كرسي النظام على كف عفريت؟ في الحقيقة إذا انحزنا له فذلك لأنه هو المنحاز لنا وهو من يدافع عن وجودنا، بمعناه الإنساني والحضاري والسياسي!
في ظل هذا الفهم، فهمي أنا، لهذه المعادلة، أستغرب من مثقف كان يسارياً ووطنياً، أن ينحاز للمعسكر الآخر! أندهش من مثقف علماني، يوافق على تعريض طموحاته هو وسعيه هو الخاص، في سبيل مجتمع علماني، ويدعم مشروعا ظلاميا استعماريا، سيكون هو شخصيا من ضحاياه لو تحقق، وسيتعرض رأسه للقطع، إن تجرأ على فتح فمه. أنا أرى أن الصراع الدموي الذي يجري الآن في الوطن العربي هو محك قاس لا يرحم ولا يحابي، والموقف فيه لا يخص موقفا ضيقا من نظام بعينه، بل يخص وجودنا بكل تفاصيله. وبالتالي فإن هذا الموقف هو باروميتر دقيق وحقيقي جدا لمدى صدق انتماءاتنا الفكرية والسياسية والإنسانية والأخلاقية. وهذا الموقف بالطبع يستدعي مساءلة تاريخنا (الشخصي وليس تاريخ أمتنا) ومدى انسجامه مع الآن، مع حاضرنا الذي لا يقبل الحياد ولا يقبل التعكز الانتهازي على مواقف سابقة لأننا ببساطة أمام لحظة تشبه البرزخ الذي يفصل الموت عن الحياة.
5. كيف يخرج المثقف من هذا كله لنعيش في مشهد صحي نقي دون نزاعات بين المثقفين؟ هل نوالي السلطة بالمطلق وننسى فكرة المثقف العضوي أم نجتث الشتات من الروابط والاتحادات العربية للكتَّاب ونضع كل السلطة على المحك بنفس نضالي؟
كما قلت سابقاً، النزاع ليس بين مثقفين، كفئة معزولة عن المجتمع لها حياتها وهمومها الخاصة بها. بل هو نزاع وصراع عام بين معسكرين، والمثقفون هم النخب المنشغلة بأسئلة هذا الصراع (أو هذا ما يجب أن يكون!) ما أقصده أن مادة وموضوع المثقف اللذين يحددان انشغالاته هي المعرفة التي تحلل النشاط الإنساني من جوانبه كلها: الفكرية والسياسية والتاريخية والدينية… الخ، فكيف له أن ينسلخ عن مادة وموضوع انشغاله؟ إن هذا الأمر يشبه تماماً حينما نطالب الطبيب أن يفصل بين الطب وبين علاجه للمرضى! كيف يكون طبيباً إذن؟ كيف يمكن للمثقف أن يفصل بين الثقافة، والموقف السياسي أو الفكري أو… الخ؟ ما الحاجة إليه إذن؟ وإزاء أي نوع من الثقافة والمثقفين سنجد أنفسنا واقفين؟! يجب على المثقف أن يخوض الصراع، هذا الأمر لا تحدده الرغبة الشخصية، بل اشتراطات الواقع، إذا كان هذا المثقف قادراً على رؤية الخلل في هذا الواقع، وفي حال ارتهن لهذه الشروط وخاض الصراع، فهو لا يخوضه مع مثقف آخر من أجل انتصارات فردية، بل من أجل إحداث تغيير جوهري في الواقع نفسه، لهذا يبدو هدف اجتثاث الخلافات بين المثقفين ـ كونهم يمثلون تيارات مختلفة، ويحملون رؤى مختلفة ـ هدفا ضيقا ولا يمكن تحقيقه إلا بعزل هؤلاء المثقفين ووضعهم في جزيرة، يتأملون فيها القمر ويطرحون ويناقشون أسئلة لا تمت لا للماضي ولا للحاضر ولا للمستقبل بصلة، بل ولا تمت للأدب ولا للشعر ولا للفن ولا للفلسفة أو التاريخ بصلة أيضاً، لأن كل هذه المواضيع ستنقلهم فورا من جزيرتهم المعزولة إلى الواقع بتناقضاته وصراعاته. في الحقيقة لست أدري أي أسئلة يمكن أن تشغل المثقف وتؤمن عزلته بعيداً عن الواقع، وتضعه في منأى عن الخلافات فتسود المحبة بينه وبين باقي أصدقائه المثقفين؟ ربما هي أسئلة تشبه الأسئلة التي قد تخطر ببال أهل الجنة: عن نسبة العسل في هذا النهر، وطول تلك الحورية، وعذوبة الماء وبريق الذهب في القصور. للأسف نحن لسنا في الجنة بقدر ما يبدو لي أننا في الجحيم.