خليل النعيمي
الشهادة ليست ما نرى، وإنما ما نعيش. والأدب ليس شيئاً آخر. لكن الرؤية مهما كانت صفاتها ستظل عاجزة عن التعبير عن مشاعر الكائن الحقيقية، تلك التي دفعَتْه ليُضحّي بنفسه كي «يشهد على ما يرى»، إنْ لَمْ تستند إلى «وعي» متفرّد، يليق بتعبيره عن العالَم الذي يراه. الأدب هو التجربة الذاتية المضيئة في حياة الكائن. وهو يقتضي منه وضع كل ما يملك من طاقة، وأكاد أقول، ومن عبقرية (فلكل كائن عبقريته الخاصة)، أن يضع كل ذلك في قلب «تراثه الشخصيّ» عندما يبدع. وأن يَسِمَ هذا «التراث المتَفَرِّد» بمَيْسَمه الخاص، حتى وهو «يشهد»، لا عندما يُبْدِع، فحسب. وهل ثمة فصل بين النشاطين؟
ولكن ماذا يعني الأدب، في النهاية، أو الشهادة (وهما بالنسبة لي شيء واحد)؟ وما هو دورهما، ومغزاهما؟ أتصوّر، أنهما يُمثِّلان: التعبير الشخصيّ والخاص، لــ«مفهوم جسد الكائن في الفضاء العام». هما، إذن، التجربة الداخلية الفريدة المفْعَمَة بوجود الكائن، والمعَبِّرة عن حِسّيته. وهو ما يعني الحَذَر من التهاون والتزييف والتواطؤ، في العمل الأدبي، مُقالاً كان، أم مَكْتوباً. لأن «مَنْ يقبَلْ أي تنازل في الأدب، يقبَلْ أي تنازل في الحياة». ولا ينقصنا، نحن، في العالم العربي، «تنازلات إضافية» غير ما قدَّمْناه، ولا زال الكثيرون منا يقدِّمونه بدون حساب.
من هذه الزواية، استطيع أن أقول، إن الأدب، شهادة كان أم ابداعاً، ليس قشرة الوجود، وإنما هو ماهيته العميقة، والمُدَوِّخة. فأنا لا أرى صيغة للوجود خارج التعبير المبدِع عنه. ومع اعترافنا بأن الكائنات المختلفة لا تملك أساليب التعبير نفسها للإفصاح عن أحاسيسها، إلاّ أننا نعرف أنها، كلها، تحب أن تؤدّي الدور نفسه، في النهاية: أن تشهد على ما ترى، وأن تبدع في شهادتها مهما كانت محدودة وعابرة، وكيفما كانت الوسيلة التي بها تشهد.
فكرنا المبدع هو الذي يحتوي العالَم، لكنه لا يمكن أن يحتويه من دون إدراك عميق لشروط الوجود. وفي الواقع، دائماً، ثمّة قيود كثيرة ومعوقات أساسية تعترض هذا الإدراك، أو تشوِّهُه. فـ»المضادات الحيوية» للإبداع الحر، وكذلك للشهادة المواكبة له، هي التي تقتل طاقة الإبداع عندنا، وتَحول دون بلوغنا المتعة العميقة التي يُفرزها «الوعي المضاد» للوعي السائد. فنصير نساوِم، أو نقاوِم. وفي الحالتين، فإن إرادة الإبداع المَلْجومة، وطرائق العمل الملْتَوِية، تمنع الرغبة من الوصول إلى غايتها. وتجعلنا ننجز أعمالاً ناقصة، في أغلب الأحيان. وهو ما «نشهده»، اليوم، بوضوح في العالَم العربيّ.
هكذا، إذن! سيكون الكائن المبدع وتاريخه الشخصيّ وجهاً لوجه في عملية الإبداع المحيِّرَة. بدون وسيط. بدون حجاب. بدون تواطؤ. حقيقة وجوده الواعي هي التي ستحدِّد سيرته الابداعية، كما حدَّدتها، من قبل، في الحياة. والإبداع، في هذه الحال، لن يكون إلا «قطيعة». قطيعة لا سابقَ لها، وإلاّ كانت تقليداً جديداً لمآثر قديمة. تذكّروا آباءنا الأوائل، شرقاً وغرباً (من هيراقليط العظيم الذي كان الصبيان يَرْمونه بالأحجار في «فَيزْ» في هضاب تركيا الحالية، إلى المعري، ابن رشد، الحلاّج، السهروردي. وكذلك ديكارت، روسّو، سبينوزا، مثلاً، لا حَصْراً)، كلهم ذاقوا العذاب عندما عبَّروا عن «حقيقتهم الداخلية»، حقيقة الوجود الذي عانوه، بدون تنازلات، وبدون اهتمام بـ»الحقيقة الخارجية» المناوئة لهم.
«الحقيقة الاجتماعية» لا تحررنا، دائماً. أحياناً، تجعلنا عبيداً لها. والأدب، أياً كان شكله، ليس بحاجة مستمرة إليها. لكنه، دائماً، بحاجة إلى مخيّلة. مخيّلة متوَثِّبَة، غالباً، ما تكون في مفارقة أساسية مع حقائق الآخرين السكونية. فالحقيقة مفهوم اجتماعيّ محض، ومصدرها الوقائع. أما المخيّلة فهي منجز شخصيّ بحت، ولا تستمدّ نُزوعها إلا من الأحاسيس. وهما يَلْتَقِيان قليلاً. ويفترقان كثيراً. ليس على الإبداع، إذن، أن ينحني أمام الوقائع أيِّاً كانت المغريات التي تقدِّمها، وتدّعيها. عليه أن يتابع طريقه الخاصة في الرؤية والإدراك. وأن يُجَسِّد بلغته الحميمة المنطق المطابق لإدراكه.
اللغة هي روح الابداع. وما عداها لَغْو. ولكن، مِن أين تنبثق اللغة إنْ لَمْ يكن من روح الكائن؟ وما هي روحه؟ أَوَليسَتْ هي عاطفته العميقة، وأهواءه المتفجِّرة؟ بلى! أنا، شخصيّاً، لا أطرح السؤال القديم: ولكن ما شأن عقله في هذه الحال؟ فأنا ممن يؤمنون: «بأن العقل عاطفة»، وليس شيئاً آخر. وهو ما يشرح لنا، لماذا علينا أن نتمتع بشحنة إنسانية عالية من أجل أن ننجز أثَراً أدبيّاً بسيطاً.
الأدب، في النهاية، هو تحويل كتلة «اللغة الشخصية» إلى شواهد فنية عالية القيمة، ذات بُعْد إنساني لا يُقَلَّد، ولا «ثَمَن له». وهو ما يجعلنا نندد، مرة أخرى، بتسَلِّط ظاهرة «الجوائز الأدبية»، اليوم، على الإبداع العربي. فنحن لا نجهل كيف تُروِّض الجوائز المخيّلة. ولا كيف تُحيل الأحاسيس الملتهبِة إلى رماد. ويدفعنا، من جديد، إلى التَّذْكير، بدعوتنا الملِحَّة للمساهمة في «حركة أدب بلا جوائز». فالجوائز، في معظمها، جوائز سلطات ثرية، محافظة، تريد أن «تَحْتَضِن الإبداع»، ولكن لتَخْنقه. وإنْ كانت مؤسساتها تزعم أنها تساهم، هكذا، في نشر المعرفة، و»مساعدة المبدعين»، فهي «تساعدهم»، فعلاً، ولكن على الخضوع لمفهوماتها. ومن ثَمّ ادْراجهم في طابور «مبدعيها المرموقين»، بعد أن تَنْزَع منهم «لسان الشَرّ»، وتُحَوِّل «سمّ الإبداع» الحارق، إلى «بَلْسَم» بارد بعد مَزْحه بحفنة من الدولارات.
________
*القدس العربي