
*يوسف زيدان
عندما اخترتُ “أثر الفراشة” عنواناً لمحاضرتى العامة فى العاصمة الأردنية عمان، بدلاً من العنوان المستهلك (علاقة المثقف بالسلطة) كان في ذهنى أمران يتعلقان بالعنوان البديل، ويرتبطان بالطرح الذى قدمته فى المحاضرة.
الأمرُ الأول منهما، هو النظرية الفيزيائية الطريفة التي ظهرت منذ خمسين سنة، واشتهرت كثيراً بعد ظهورها، وملخصها أن ذاك الكون وهذا العالم الذى نعيش فيه، مترابطٌ على نحوٍ عجيب في (بنيةٍ) واحدة تؤثِّر عناصرها فى بعضها البعض. وتم التعبير عن هذه النظرية (أو بالأحرى: النظرة) بعبارةٍ رنانَّة الإيقاع بديعة المعنى: “إذا رفَّت فراشةٌ بأجنحتها فى الصين، فقد يُحدث ذلك إعصاراً فى أمريكا”. والأمرُ الآخر، هو قول الشاعر محمود درويش في قصيدته (ديوانه) المعروف “أثر الفراشة” ما نصُّه: أثرُ الفراشةِ لا يُرى، أثرُ الفراشة لا يزولُ، وهو جاذبيةُ غامضٍ يستدرجُ المعنى ويرحل، حين يتضح السبيلُ، هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميِّ وأشواقٌ إلى الأعلى، وإشراقٌ جميلُ.
كأن الشاعر كان يعبِّر رمزياً بسطوره الشعرية هذه، عن دور “المثقف” فى كل مجتمع، ويشير إلى المعانى المرتبطة بمفهوم الفعل الثقافي. وفى هذا السياق لابد لنا أولاً من الوقوف عند تعريف (المثقف) وتحديد دلالة هذه الكلمة التي طفرتْ في واقعنا العربى المعاصر، فجأةً في بدايات القرن العشرين. وفي ذلك نقول:
خلال تاريخنا الطويل، لم تُستعمل كلمة “مثقف” إلا بمعناها اللغوي الأصلي الذي حدَّده العلامة ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم، المتوفى سنة 630 هجرية) بقوله في قاموسه الشهير “لسان العرب”: ثَقَفَ الشيء يعني حذقه، ورجلٌ ثَقِفٌ يعنى حاذقُ الفهم، ويقال ثَقَفَ الشيء أى تعلَّمه بسرعة فصار ثابت المعرفة وصاحب فطنة وذكاء، وثُقف الرجل يعنى ظُفر به! يقال “ثقفنا فلاناً” فى موضع، أى أخذناه منه.
أما كلمة “الثقافة” ذاتها في فصيح اللغة العربية، فهي تعني ضمن ما تعني: إعمال السيف “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” والثِّقافُ هو الخصامُ والمجالدة، والثقَّافة أيضاً: خشبةٌ تسوَّى بها الرماح. ولم تستعمل كلمة “مثقف” في تراثنا إلا بمعنى مجازي، هو رشيق القوام! وهو معنى كنتُ أجهله حين قمتُ فى العشرينيات من عمرى بتحقيق أشعار عفيف الدين التلمساني، فأدهشني قوله في مطلع قصيدةٍ بديعةٍ تذوب رقةً: لا تُخدعنَّ برقَّةٍ فى خدِّه – فالسيفُ قتالٌ برقَّة حَدِّه.
ودَعِ الجفونَ فإنما وَسْنانها – أضحى سِنَاناً في مثقف قدِّه.
أما الموصوف اليوم بالمثقف، فهو الذي كان طيلة تاريخنا يسمى “الأديب” وهو الوصف الذي ينطبق على الشعراء والكُتَّاب والمفكرين والفلاسفة، وغيرهم ممن ذكرهم ياقوت الحموي في كتابه الموسوعي الشهير: معجم الأدباء. وفي أوروبا، ظهر مصطلح (الثقافة) وانتشر فى القرن التاسع عشر، بمعنى “التحضر والرقي” وقيل في بيان هذا المعني، إن الثقافة هى الجانب اللامادي من الحضارة. ثم وضع عالم الاجتماع الشهير “تايلور” في بدايات القرن العشرين، تعريفه الذي حظي بقبولٍ واسعٍ فى أنحاء العالم، بقوله: الثقافة بمعناها العام هى ذلك الكل المركب الذى يشتمل على المعتقدات والمعارف والفنون والأعراف والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسانُ باعتباره عضواً في مجتمع.
وهكذا صارت “الثقافة” معادلةً للوعي بطبيعة ما هو سائد فى المجتمع، ومطابقةً لمقدار الإحاطة بهذا “الكل المركب”. فيكون الموصوف بالمثقف هو الشخص الواعي بطبيعة مجتمعه والمجتمعات الأخرى (بصرف النظر عن مقدار وعيه) مع أن كل إنسان يعيش في جماعة فهو بالضرورة مثقفٌ، ولو بقدرٍ ضئيل. أما الذي يوصف تخصيصاً بالمثقف، فهو الشخص الأكثر وعياً وإحاطةً وانشغالاً بالأفكار والفنون والمعارف المعبِّرة عن مجتمعه والمجتمعات الإنسانية الأخري. وبهذا المعنى، تمَّ انتقال لفظ ومفهوم “المثقف” فى واقعنا العربى المعاصر، بعد بدايات القرن العشرين، وانتشرت المفردات المشتقة منه.
وللمثقف دورٌ فى مجتمعه، أقرب ما يكون إلى “أثر الفراشة” بمعنى أنه يتوسَّل بالكلمات والتعبيرات الأدبية، أو بأنواع الفنون، أو بالبحث المتعمق، كي يعكس طبيعة هذا المجتمع ويرتقي بمستواه ويستشرف آفاقه المستقبلية. ولأن أدوات “المثقف” بالغة الرهافة، فهى خليقة بصفة “رفيف أجنحة الفراشة” لأنها تظهر في خاتمة المطاف في شكلٍ رهيف: قصيدة، لوحة، موسيقي، إبداع فكري. وغير ذلك من أنواع “الإنتاج الثقافي”.
طيب، هذا عن “المثقف”. فماذا عن “الحاكم” وطبيعة الدور الذى يقوم به في المجتمع؟ الحاكمُ شخصٌ استجاب لشهوة الاستعلاء على الناس، وأحبَّ أن يُدير أمورهم حسبما يرى هو. وهو يسعى دوماً لضبط حركة المجتمع، لضمان استقرار حكمه. وكما أشرنا فى مقالة الأسبوع الماضي، فإن أدوات الحاكم كلها حسية ومباشرة ابتداءً من قوة الشخصية (الكاريزما) المرتبطة بصفات جسمية معينة، ومروراً بالعطايا المادية، وانتهاءً بأدوات القمع الملتجئ إليها عند اللزوم: السجن، الشرطة، بطش الأعوان، العَسَس (جهاز الأمن السري). وهو ما يعبِّر عنه اختصاراً بقولهم: ذهب “المعز” وسيفه.
ونظراً لاختلاف الوسائل والغايات بين الحاكم، والمثقف (القاهر، والمحلِّق) فقد وقع الخلافُ فى كثيرٍ من الأحيان بينهما، وهو ما أوحى لأهل زماننا بأن المثقف لابد أن يكون معارضاً سياسياً. وهذه في واقع الأمر “أغلوطة” يجب الانتباه إليها، ما دمنا بصدد إعادة بناء مجتمعاتنا التي اهتزت بفعل الفساد الذى استطال طيلة العقود الماضية، أو بالأحري: ما دمنا نزعم ذلك!.
إن وقوع الخلاف واشتجار الاختلاف، ليس شرطاً أساسياً لعلاقة المثقف والحاكم. فقد رأينا في تاريخنا الطويل، مالا حصر له من أمثلة دالة على تناغم هذا الدور مع ذاك، سعياً للارتقاء العام بحياة الجماعة. ولطالما حرص كثيرٌ من الحكام النابهين على إذابة الجليد بينهم وبين مثقفي زمانهم، والأمثلة على ذلك لا تكاد تقع تحت الحصر. لكن اشتهار المآسى التى وقعت لبعض المثقفين على يد الحكام في زمانهم، جعل كثيرين منا يتوهَّمون أن المثقف لابد له أن يكون معارضاً للحاكم، لا ناصحاً. وكأنه لابد أن يكون مختلفاً معه، ومكتوياً بناره، وليس متفاعلاً معه على نحوٍ يجمّع الجهود للارتقاء بواقع الناس. ومفهوم أن الاستبداد الطويل الذى عاشته مجتمعاتنا العربية فى الأزمنة القديمة والفترات الأخيرة، كان السبب وراء اشتهار هذه “الأغلوطة” التي لن نجد لها مصداقية فى مجتمعات راقية، كالمجتمع الفرنسى المعاصر. مثلاً.
وبالطبع، فهذه ليست دعوة لمهادنة المثقفين للحكام، بل بالعكس من ذلك: هى دعوةٌ للتناغم فيما بينهما مادام ذلك فى مصلحة الجماعة، وإشارةٌ إلى ضرورة قيام كُلٍّ منهما بدوره الاجتماعي العام (بالسلم إن أمكن، وبالمعاداة إن لزم). فإذا انحرف الحاكم قام المثقف بتقويمه، وإذا استبدَّ قاومه بأثر الفراشة الذى قد يُحدث الأعاصير التى تقتلع العروش.
________
*الأهرام