الرواية وثورات الحداثة ..الثورتان الفلسفية والسايكولوجية(2)




لطفية الدليمي

(2)

طالت الثورة على المستوى الفلسفيّ في بواكير القرن العشرين الاشتغالات الفلسفيّة التقليديّة وأثمرت كشوفات فلسفيّة جديدة لعلّ حركة التحليل اللغوي Linguistic Analysis و النزعة التحليليّة Analiticity في الفلسفة بعامّة تعدُّ أهمّ معالمها . وقد ساهم فلاسفة مثل برتراند راسل ولودفيغ فيتغنشتاين في قيادة ركب الفلسفة التحليليّة إلى جانب جمهرة من الأساتذة المميزين من جامعة كمبردج وجامعة اوكسفورد ، ولا تخفى بالتأكيد التأثيرات التي جاء بها هذا الاتّجاه التحليلي الفلسفيّ – اللغوي إلى اللغة الروائيّة التي نزعت عنها ثوب الرّطانات اللغويّة المفخّمة و الاستعارات البلاغيّة المحتشدة التي كانت سمة الرواية الفكتوريّة ، وحلّت محلّ هذه الرطانة اللغوية والاستعارات لغة مقتصدة تحتكم إلى معايير الانضباط ومقاربة الأهداف بلا وسائل التفافيّة على صعيد اللغة . ولايفوتنا هنا التنويه إلى العلاقة الوثيقة بين الفلسفة و الأدب بعامّة – والفلسفة والرواية على نحو خاص – و يمكن إيراد قائمة طويلة بالفلاسفة الروائيّين ، لعلّ أيريس مردوك تقف في طليعتهم ولازالت رواياتها تلقى صدى طيّباً حتى يومنا هذا . 
ولايمكننا على هذا الصعيد إغفال الثورة الليبرالية التي تعاظم مدّها في القرن العشرين بعد وضع قواعدها التأسيسية الأولى في القرن التاسع عشر على يد آبائها المؤسسين وفي طليعتهم الفيلسوف التنويري جون ستيوارت مل والتي تعد الفردانية Individuality المقترنة بالليبرالية التمظهر الأوضح والميزة الأساسية لها وأصبح في عداد الحقائق الواضحة التي ترقى إلى مستوى البديهيات أن الفرد مسؤول مسؤولية تامة وكاملة عن صناعة حياته وتشكيل مستقبله وأن على جميع النظم الحكومية مساعدته في تحقيق فردانيته المميزة والثمينة . على الصعيد الاقتصادي قادت الليبرالية إلى الإرتقاء بنوعية الحياة ، و ظهر إلى العلن مفهوم دولة الوفرة Welfare State ، كما تم تحديد ساعات العمل اليومية والحد الأدنى للأجور ، وطبّقت برامج الحماية الاجتماعية وبرامج التأمين الصحي ( في القارة الأوربية بخاصة ) ، الأمر الذي ساهم في تعزيز قدرة الفرد اقتصادياً وتعزيز شعوره بالأمان الذاتي تجاه المجاعة والفاقة ، وتمكينه من الاستمتاع بوقت الفراغ المتاح له ، وتدعيم فضائه الذهني ونوازعه العقلية العليا بعيداً عن المكابدات اليومية المرتبطة بتأمين الحاجات البيولوجية البدائية . أما في ميدان الثقافة فقد فتحت الثورة الليبرالية آفاقاً واسعة أمام أنماط تجريبية مستحدثة من الأفكار والفلسفات ، ولم تعد الأطر والمؤسسات القديمة ممّا يمكن – أو ينبغي – العمل في ظلّها ، ومن هنا يمكننا ملاحظة الحقيقة الواضحة في كون بدايات القرن العشرين – التي شهدت نشوء الرواية الحديثة- هي ذاتها التي شهدت ولادة وانطلاق الحركات الثقافية ذات الطبيعة التثويرية مثل : السريالية ، كما شهدت ظهور المدارس الحديثة في الرسم مثل : التكعيبية . ساهم الحسّ الفرداني في تهشيم القيود الثقيلة التي كانت تكبّل الفرد من جهة ، كما عمل في الوقت ذاته على تشظية فضائه العقلي والنفسي وأطاح بأحاسيس الطمأنينة والسكينة والإنتماء التي اعتادها الفرد في أحضان عائلته أو بارتباطهبالتشكيلات المؤسساتية التقليدية ( مدرسة ، جيش ، مزرعة ، مصنع ، كنيسة ،،،،،،،، ) وهو الأمر الذي انعكس على طبيعة الاشتغالات الروائية التي دفعت بالرواية الحديثة أن تتعامل معها بجدية فائقة.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *