الرواية وثورات الحداثة ..الثورتان التقنية والسايكولوجية(1)


لطفية الدليمي



(1)
يُنظَرُ إلى الرواية على أنّها إحدى المنتجات الأكثر تميّزاً التي جاء بها عصر الحداثة مع بدايات القرن العشرين – القرن الذي شهد ثوراتٍ عظيمة ساهمت في إعادة رسم المشهد الروائيّ بالكامل. 
أولى الثورات التي كان لها أبلغ الأثر في تحديث شكل الرّواية هي الثورة التقنيّة التي بدأت بواكيرها منذ عصر الثورة الصناعيّة ( التي تعدُّ المكائن البخاريّة والقطار أهمّ معالمها المميّزة) وتبلورت مع بدايات القرن العشرين مع بعض الشواهد التقنيّة التي ربّما تكون الطّائرة، ووسائل الاتّصال ، والسيّارات العاملة بمحرّكات الاحتراق الداخلي أهمّها إلى جانب التقنيّات العسكريّة القاتلة التي شهدنا نتائجها المهلِكة مع الحرب العالميّة الأولى . أبانت الثورة التقنيّة أمام الإنسان القدرات الهائلة التي يجترحها في فعل الخير والشرّ معاً وربّما كانت قصيدة (الأرض الخراب) لإليوت تصف بطريقة رائعة المشهد الإنسانيّ والخراب الذي رافقه بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى.
أعادت الثورة التقنيّة على وجه التحديد تشكيل تصورات الإنسان عن المكان والزمان – لا على المستوى المفاهيميّ مثلما فعلت الثورة الفيزيائيّة بل على مستوى الإحساس الفردي والتعامل اليوميّ – بعد أن انتشرت سكك الحديد بخاصّة ومن هنا صار يُنظر إلى القطار ( إلى جانب السكك الحديديّة ) على أنّه واحدٌ من أهمّ وجوه الحداثة التي ساهمت في إعادة ترتيب المشهد الروائيّ بسبب انتشارها و رخص كلفتها التي باتت في متناول الجميع بعكس الطائرة التي انحصر استخدامها بين بعض الطبقات الثريّة ولم تصبح وسيلة متاحة أمام الكثيرين إلّا مع منتصف الخمسينات في القرن العشرين بعد تطوير المحرّكات النفّاثة . من الجدير الإشارة إلى أنّ القطار يظهر كمكوّن رئيسيّ في الكثير من الروايات باعتباره أداة ساهمت في تهشيم مفهوم ( الزمن الراكد والممتد بلا نهاية ) وصار الزمن مفهوماً ديناميكيّاً يتّسم بالتغيّر والنزعة الثوريّة الدافعة إلى التطوّر المتواصل كما ظهر القطار كبطل مواز لشخصيات الرواية في بعض الروايات الحداثية.
أمّا الثورة الثانية التي كان لها أبلغ الأثر في تثوير المشروع الروائيّ و تحديثه فهي الثورة السايكولوجيّة التي أعادت تشكيل مفاهيم العقل Mind ، والحتميّة Determinism ، والإرادة الحرّة Free Will ، والدوافع Motivations ، والحاجات Needs ، و ربّما تكون السايكولوجيا الماسلويّة ( نسبة إلى عالم النفس المعروف أبراهام ماسلو ) هي الإنجاز الأكثر اهميّة في الميدان السايكولوجي خلال القرن العشرين – من وجهة نظر تأثير السايكولوجيا في الرواية – بعد أن جاء ماسلو بمفهوم التدرّجية الهرميّة للحاجات الإنسانيّة ، وكذلك بمفهوم الطبيعة الروبوتيّة الشبيهة – بوضعيّة الطيّار الآلي – التي يعيش معظم البشر حيواتهم فيها و هم يعانون من أقصى درجات الضجر واللامبالاة ، ومن الطبيعيّ أن تكون مفردات مثل الحاجات الإنسانيّة ، والضجر ، و اللامبالاة ،،،،، موضوعات مغوية ودسمة أمام الرّوائيّ المنشغل بالحياة ومعضلاتها السائدة في عصرنا . لايمكن بالطبع غض الطرف عن المساهمات الثورية التي جاءت بها الثورة الفرويدية ، إنما يبدو أن مساهمات ماسلو كانت أكثر ملامسة للشغف الروائي بعد أن درس بجدية ظواهر سائدة مثل ظاهرة تجربة الذروة Peak Experience الشائعة التي كانت تسمى بمسميات عدّة مثل التجربة الصوفية أو الوعي الكوني أو الخبرة المتسامية.
______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *