مشياً على عكازين


غصون رحال*


خاص ( ثقافات )

أطول مسافة قطعتها مشياً على قدمي لم تتجاوز خمسة وعشرين كيلومتراً!

كان ذلك قبل سنوات عديدة تعجز ذاكرتي عن استحضارها دون خدش في تفاصيلها الدقيقة، أو لعلّي أذكر تفاصيلها جيداً وأحاول تجنيب نفسي مغبّة الرجوع بالذاكرة إلى زمن عصي على الاندثار لما قد يحدثه التذكر من شروخ في زوايا روحي. يوم كانت عمان في أوج عنفوانها ونضارتها، وكان أن شاركت في ماراثون نظّمته جمعية الدعم الطبي للفلسطينيين MAP)) يبدأ من الدوار السابع وينتهي في مطعم “كان زمان” حيث يحظى المشاركون بأرغفة “المناقيش” الطازجة وأكواب الشاي الساخنة تكريماً لجهودهم وتبرعاتهم في دعم الجمعية. 

على جانبي الطريق المعد مسبقاً لاستقبال مثل ذلك الحدث غير المألوف حينها، يصطف فتيات وفتيان رائعون يقدمون عبوات المياه البادرة للعطاشى السائرين، وتقف حافلات نقل صغيرة على أتمّ الجاهزية لنقل من تخذله قدماه من المرضى أو كبار السن في إكمال المسافة حتى خط النهاية. وكان أن تيبست مفاصل ركبتيّ، تورّمت قدماي، وتقشرّت أصابع قدمي العشرة، وعجزت عن ارتداء أيّ من أحذيتي التي ضاقت عليّ لأسبوع كامل. 

قفزت هذه الحادثة على سطح ذاكرتي وأنا أتابع تقريراً مصوّراً عن حال اللاجئين السوريين في المجر. مئات العائلات يتكومون في مخيمات طارئة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة أقامتها لهم السلطات على عجل، يتحايلون على الحرّاس ويفرّون إلى محطة قطار “كيلتي” في بودابست، يفترشون الأرض بأطفالهم، وحقائب الظهر الصغيرة التي تحوي متاعهم البسيط، وما ملكت قلوبهم من صور وذكريات في انتظار القطارات التي ستقلهم عبر النمسا إلى ألمانيا. يقطع كبارهم الوقت بالغناء وإطلاق النكات أو التحدث إلى وسائل الإعلام المنتشرة بكاميرات وميكروفونات مراسليها لنقل وقائع هذه الهجرة العجيبة في هذا الزمن العجيب، ويتسلى صغارهم بمشاهدة حروب “توم وجيري” على شاشة ضخمة زودتهم بها الجمعيات الأوروبية المعنية بتوفير بعض أسباب “الرخاء” لللاجئين!

تقرّر الحكومة المجرية وقف حركة القطارات العابرة للحدود مع أوروبا بالتوافق مع حكومة النمسا للحيلولة دون تدفّق اللاجئين إلى أراضيها. يطول بهم الانتظار وتتقطع بهم السبل، يعقد الواحد منهم اجتماعاً موسّعاً مع نفسه يتشاور معها سبل الخلاص، ليقرّر بعدها متابعة الرحلة مشياً على الأقدام! 

بعد مشاورات جماعية للنفس مع النفس، توافقوا جميعاً على هذا الحل اليتيم، ومضوا منطلقين في الطرقات، سرباً وراء سرب من المشاة يقطعون الشوارع، يعبرون الجسور، يتضاحكون ويمرحون، يتبادلون التقاط الصور ويتناوبون على حمل صغارهم وحقائبهم كأنهم في “سيران”، رحلة جماعية، أو كرنفال وسيعودون إلى بيوتهم آخر النهار، يسبق بعضهم الجمع ليعاود الوقوف والانتظار حتى يلحق به الآخرون في طقس أشبه بتنفيذ شعائر نذر مقدّس على تقاسم ذات المصير. 

يسأل أحدهم: كم هي المسافة إلى ألمانيا؟ 
يجيب آخر: ثلاثمائة ميل!
يتهامسون: ثلاثمائة ميل، ثلاثمائة ميل … يلاّ 

يشدّون الهمّة ويبدؤون أولى الخطوات في رحلة اتساعها السموات والأرض من المجهول، شباب وشابات رجال ونساء، فتيان وأطفال، بينهم محمود؛ شاب كان يعمل كهربائياً في سوريا قبل أن تفتّت البراميل المتفجرة ساقيه ليرخي على أثرها ثقل جسده على ساقين من البلاستيك وعكازين خشبيين، يسير مع السائرين، يضرب بعكّازيه إسفلت الشارع ويتبعهما بقدمين ثقيلتين… حتى الأطراف الصناعية تتورم، تتيبس مفاصلها، ويعتري أصابع قدميها التسلّخ والاحمرار أمام هذه المسافة.

يحل الليل، تحيط بهم العتمة في غابة تبدو أشجارها مخيفة كمارد خرج من صفحات الأساطير، تزداد برودة الطقس، تغطي الأم أنف طفلها المشتعل كرأس طلقة نارية بغطاء رأسها، تحتضنه بقوة علّ حرارة جسدها تغنيه عن دفئ الغطاء المفقود.
يلهث المذيع إلى جوارها سائلاً: أليس هذا صعباً عليكم؟ 

تجيب باطمئنان: بل سهل. الحرب أصعب… 
يكرر دون تصديق: سهل؟ كيف؟ 

تشرح وابتسامة مضيئة فوق شفتيها: نحن نمشي، نمشي وفقط، برد وعتمة نعم، ولكن تحت أقدامنا أرض ثابتة لا تزلزلها القنابل، وفوق رؤوسنا سماء صافية تلمع فيها النجوم لا الطائرات والصواريخ… سهل، لأن بإمكاننا أن نبتسم! 

*روائية أردنية

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *