نص موغل في تقنية السهل الممتنع



أحمد الشيخاوي*


خاص ( ثقافات )

شعرية طيبة النواب لا تكتسي طابع الغموض، بل على العكس من ذلك تماماً فهي تتسم بالبساطة العميقة المرغبة في طرق أبواب التأويل كأداة ممكنة من فهم الآخر كقرين متغلغل في لا وعي شاعرة من هذا الطراز، تؤطر شخصيتها بصيرة يتقاذفها الحلم من جهة كمتنفس أخير وجغرافية للنزوح والوطن من جهة ثانية كحبيب أول وقبلة لإفراغ روحي في أعنف تجلياته لا يتخطى حدود العتاب.

“في وطني
زحمة سير تفقدك عقلك
لكنها
تجعلك تسير وحيداً بجانب دجلة
فتجد ما لا تجده
وتكسب نفسك
روحك
وقلبك
تشعر وكأنك في غفلة عن أرضك.

وفي وطني
مشردين
يكسبون أملهم
بابتسامة منك
فابتسم من فضلك.

فيه نحتاج لمن
يصل السماء
لنعيش بقوة حتى نصل إلى الأهداف
ونحتاج الدعاء 
لأناس إذا حرمنا القدر منهم
سنعيش بصعوبة
حتى أن نودع الحياة 
كلها، وليس الأوطان.

في وطني
نكتب، نقرأ، نحلم، 
نتفوق
ولا أحد يبالي بالنجاح
فالانتقاد أسلوبنا للمعيشة
حياتنا أن نكسر بعضنا
لكننا نقويها
بأن نحلم ذات الحلم
أن نعيش 
بحرية وسلام..”

نص شذري يعكس أنين الذات الشاعرة تحت نير التمزق في الإحساس تجاه ما يعتري الوطن من تناقضات وصعوبات في التأقلم مع زخم من المتغيرات في خلوها النسبي من قيمتين أساسيتين يصعب العيش بدونهما، الحرية والسلام، وإزاء هذه الإسقاطات على الوطن الذي من المفترض أنه ماهية ينهل منها ما يمنح التوازن الوجداني، ويحول دون الهروب السلبي، على اعتبار ارتماء “طيبة” بين أحضان الطبيعة/ دجلة، ضرباً من ضروب العزلة الإبداعية، تصيداً لما يكمل نقائص الوطن وأوجه ضعفه.
تفتتح كل قطعة من النص، بلازمة “في وطني” للتأكيد على تمحور القلق حياله كأرض تحاصر الوعي المجهد بما ألمَّ بها من محفزات على الركض خلف سراب المفقود (فتجد ما لا تجده/ وتكسب نفسك)، وأيضاً غياب الابتسامة أو ندرتها ارتقى بها ــ رمزياً ــ إلى ما عدله الأمل المكتسب وفيه إحالة على مسألة الرغيف كهم يكتسح قائمة الأولويات، ليس في وطن موجوع ما تنفك تعاتبه الشاعرة، بل في الأوطان العربية قاطبة، فينضاف إلى الجوع الفكري والروحي جوع الكد وتحصيل متطلبات الحياة (يكسبون أملهم/ بابتسامة منك/ فابتسم من فضلك).
كما أن الأمل الزائف الذي لا يحلق تصاعدياً إلى السماء، لا ينفع بقدر ما يعتم على ضعف يحجب ثمار الأهداف المسطرة، وخير وأجل من يرتجى طبعاً هو الله جل جلاله إذ في دعائه موجبات النظر إلى خلقه بعين الرحمة وبالتالي كشف غمة الأمة.. فزوال الأوطان بسفك دماء الأحبة ظلماً وعدواناً وباستشراء الأمل الكاذب المراوغ (فيه نحتاج/ لأمل يصل السماء/ لنعيش بقوة حتى نصل الأهداف/ ونحتاج الدعاء)
وتختم الشاعرة طيبة النواب نصها المتشظي، بالتلميح إلى حقيقة مرة تعوق عجلة التطور صوب الأحسن في مجتمعاتنا، إنها إشكالية النقد اللاذع المغيبة عنه الحنكة والشفافية والحياد في مواجهة المعطيات، ما يشوه معيارية النجاح كدعامة لا يقوم الوطن ولا يقوّم المعوج منه إلا بها.
الانتقاد كسلاح لتحطيم زجاج القلوب العنيدة الذاهب بتشاؤمها القفز فوق الواقع على الحلم ذاته، في وشاية بفكر ووعي جمعي (بأن نحلم ذات الحلم) الحلم بالحرية وبالسلام، وسلم هذا الطموح الإنساني المشروع متمثل في القراءة والكتابة (نكتب، نقرأ، نحلم/ نتفوق/ ولا أحد يبالي بالنجاح/ إلخ…)
بقي أن ألفت عناية المتلقي الكريم إلى نقطة أخيرة ضمن هذه الورقة النقدية، تكمن في استعمال “طيبة” للأفعال (تفقدك/ تجعلك/ تكسبك/ ابتسم/ نكتب/ نقرأ/ نحلم/…)، وكأن الغرض منه إضفاء عنصر التشويق على العرض برمَّته، وهي تقص علينا معاناته كأنها لاجئة أو نازحة نأت بها ويلات الحرب الملعونة المشتعلة في مناطق ما يسمى بالربيع العربي.
وكما سبق وأشرت، قد لا يجد القارئ صعوبة تذكر في استيعاب هذا النص بيد أنه مفخخ بسهله الممتنع الدال على رؤية متوهجة وانسجام تام مع الذات بتحويل قلقها إلى جوانب إيجابية.
وإذن نحن إزاء شاعرة توظف تقنية كشف أسرار خبايا نفس مثقلة بالقطوف برغم تهجم الظرفية وقد وضعت بين أيدينا ومضة جسد شعري بسهله الممتنع استطاع فك شفرات المعادلة الإنسانية كحالة شخصية عاشتها “طيبة” لتنقلها عبر نص عبر نص محترم، إلى عالمية مؤثرة جداً.
* شاعر وناقد مغربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *