الكـاريكاتير.. فن السـخرية والنقد والابتسامة


د. محمود شاهين



يُعرَّف (الكاريكاتير) بأنه فن رمزي تهكمي هجائي، يُركّز على المبالغة في التفاصيل والملامح، ويعتمد على سرعة الملاحظة والبديهة، لإبراز موقف، أو عنصر من العناصر الحياتيّة، وهو فن يتطلب موهبة خاصة في المشتغل عليه، ليس في الرسم والتمكن من ناصيته وتقاناته فحسب، وإنما على صعيد سرعة البديهة، والقدرة على التقاط المفارقات السياسيّة والاجتماعيّة، وتحويلها إلى رسمة كاريكاتيريّة مُعبّرة. 

اشتقت مفردة (كاريكاتير) من الكلمة اللاتينيّة (كاريكاه) وتعني الصورة المبالغ في معالمها، كما أن للكاريكاتير صلة حميمة بالكلمة الانكليزيّة Character وتعني الشخصيّة، وكأن هذا الفن مناط به مهمة كشف خبايا الشخصيّة.

سجلت البُرديّات المصريّة القديمة، البدايات الأولى لهذا الفن، أما فن الكاريكاتير بشكله الحديث فقد تبلور أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في أوروبا، على القاعدة الفنيّة لعصر النهضة، زاوج هذا الفن بين التشكيل والكوميديا أو السخرية، وتعود جذوره إلى فنون ما قبل التاريخ، حيث حوت كهوف (كامبرل) في فرنسا، وكهوف صحراء الجزائر الجنوبيّة، وكذلك الكهوف في إيطاليا وأمريكا الجنوبيّة والجزيرة العربيّة، رسوماً ذات نزعة كاريكاتيريّة واضحة من حيث التشكيل والمضمون الساخر، وفن الكاريكاتير هو ذلك الرسم البسيط الناقد الساخر الذي يغني عن مقالة كاملة، وإن كان أحياناً من دون تعليق، وهذا النوع من الكاريكاتير تحديداً، يوصل رسالته للمتلقي بسرعة ومن دون عناء.
لفن الكاريكاتير علاقة قديمة جديدة بالصحافة المقروءة (ولاحقاً المشاهدة) فهي التي احتضنته وعممته وطوّرته، يتفرد فن الكاريكاتير بجملة من الخصائص والمقومات، وله أنواعه المختلفة كالسياسي والاجتماعي والثقافي والترفيهي الفكاهي، أما فن الكاريكاتير العربي الحديث، فقد ولد العام 1877 عندما قام (يعقوب بن صنوع) بإصدار جريدة ساخرة في القاهرة باسم (أبو نظارة زرقاء) وهي الأولى من نوعها في الشرق لناحية مضمونها الهزلي الكاريكاتيري، ثم جاءت مجلة (الكشكول) و(الشمعني) و(ظهرك بالك) و(حط بالخرج) و(النديم) و(المضحك المبكي) و(الدبور) و(الدومري).. وغيرها. وفن الكاريكاتير لا يمكنه أن يفعل شيئاً من دون الصحافة، فهي الحضن الذي نشأ وترعرع وتطور فيه، ومن خلالها وبوساطتها، وصل إلى الناس، بقطاعهم العريض، وقام بدوره التحريضي والإصلاحي والتنويري، والنضالي، والترويحي.
يعتمد فن الكاريكاتير بتقديم مواضيعه وأفكاره، على الأشكال المباشرة والرموز والإشارات المكثفة، وأحياناً على الكلمات والنصوص، وأفضله ما كان مختصراً ومختزلاً ومفهوماً بلمح البصر.
من أهم مقومات فن الكاريكاتير الناجح، قيامه بقلب المعنى العام للحدث وتبديله، ثم عرضه على عدة مراحل، ولتحقيق ذلك، لا بد من توافر عنصرين أساسيين في رسام الكاريكاتير، الأول: موهبة الرسم والخبرة والدربة والإمكانيّة في التعامل معه. والثاني: موهبة التقاط الفكرة الذكيّة، الجديدة، المعبرة، وعكسها عبر الرسم والعناصر الأخرى في رسمة الكاريكاتير، بجلاء ووضوح واختزال، لتصل إلى المتلقي بيسر وسهولة وقوة. 
لقد شكّل كل ما أنتجته البشريّة من سخريّة ونقد ورسم محوّر، الجينات الوراثيّة التي وصلت إلى هذا الجنين الذي يدعى (الكاريكاتير) وقد شبّ وترعرع وانتشر وزاد تأثيره في الناس، عندما صاهر الصحافة واقترن بها!.
وكغيره من أجناس الثقافة (لاسيّما البصريّة) استفاد فن الكاريكاتير من المعطيات الهائلة التي وفّرها الحاسوب لمزاوليه الذين ربطوا نتاجهم به، أو بعض مراحل إنجاز هذا النتاج، غير أن اتكاءهم على الحاسوب، خدمهم شخصياً أكثر مما خدم فنَّهم، فقد وفر الحاسوب لهم، سرعة الإنجاز، ودقته، وجماليّة خارجيّة لفنهم، تشبه إلى حد بعيد الفاكهة والخضر البلاستيكيّة، أي شكل جميل، وتعبير بارد، فمع الحاسوب، غابت لمسة الفنان المباشرة المفعمة بالإحساس والانفعال، والحاضنة لتفاعله مع الموضوع المعالج وهو في ذروته، كما بدأت المواهب المتواضعة الإمكانات والخبرة، تختبئ خلف ما يتيحه لها الحاسوب من قدرات تقانيّة كبيرة، قادرة على تمريرها وتسويقها، بل أحياناً منافستها للمواهب الحقيقيّة والأصيلة، وهذا الأمر لا ينسحب على رسامي الكاريكاتير فحسب، بل يطول مزاولي الفنون البصريّة الأخرى، ولاسيّما المصممين الغرافيكيين، ومهندسي الديكور، وحتى المصورين والحفارين والنحاتين…الخ.

يمثل الكاريكاتير العربي الناقد مجموعة كبيرة من الفنانين منهم: ناجي العلي، صلاح جاهين، أحمد حجازي، مؤيد نعمة، رشيد قاسي، محمد الزواوي، ممتاز البحرة، عبد الهادي الشماع، علي فرزات، محمود كحيل…وغيرهم، لكل واحد منهم أسلوبه الخاص المتميز بجملة من الخصائص والمقومات والتقانات المتعلقة بالتعليق الأدبي، والشخصيات الكاريكاتيريّة، والتكوين، والتشريح، والديمومة، والآنيّة وأسلوب السخريّة، واعتماد الخط الخارجي وبعض التقانات في إنجاز الرسمة الكاريكاتيريّة المتعددة المواضيع والأهداف، والملتقية جميعها على النقد والسخريّة المتماهيّة بالابتسامة.
إن ثمة علاقة بين فن الكاريكاتير وسيكولوجيا وسيسولوجيا المجتمع العربي، وبين رسام الكاريكاتير العربي وجملة من القضايا المهمة المتعلقة مباشرة بقدراته الإبداعيّة، ومراحل عملية الإبداع الفنيّة، وعملية تذوق فن الكاريكاتير، والفرق بينه وبين النقد الفني. ولأن الفنان المبدع مفطور على التمرد والثورة على الواقع، وعدم رضاه عما هو سائد، وسعيه الدائم لتغييره، فقد اصطدم إبداعه بحرية الرأي والتعبير، وجعله في معظم الأحيان، مطارداً أو يعاني من التهديد والتضييق عليه.
وللعامل الاجتماعي تأثيره الكبير في تذوق فن الكاريكاتير العربي، والتوافق الاتصالي بين الكاريكاتير والمتلقي، ولتحقيق هذه الغاية يجب أن يراعي فن الكاريكاتير، اختيار الرموز بما يناسب جمهوره، حيث إن لكل علامة أو رمز أو دلالة، سواء كانت تشكيليّة أو لغوية، مدلولاً أو مرجعاً.

أما آلية التحريض في فن الكاريكاتير، فتتم على مستويين: الأول فكري، إذ يخاطب الكاريكاتير جملة من القناعات التي تؤمن بها الجماعات الموجّه إليها، أو المعارف الفكريّة المكوّنة لها. والمستوى الثاني انفعالي، حيث يلجأ الكاريكاتير إلى مخاطبة الشعور، ويقوم بشحذه باستمرار، ليبقى في قمة توهجه وحيويته.
ولنجاح عملية تواصل هذا الفن مع المتلقي ونقل رسالته إليه بشكل صحيح وسليم، لا بد من التفاعل بين هذين المستويين، وقيام حالة من التوافق الاتصالي بين المخزون المشترك للرمز والمتوجه إليه، إذا أردنا تقوية الدور التحريضي للكاريكاتير، ورفع وتيرة تأثيره، وهذا الأمر يتم من خلال عرض ووصف المشكلة التي يتصدى لها، ثم تقييمها وأخذ موقف منها، سلباً كان هذا الموقف أم إيجاباً، ومن ثم يحاول تحريض المتلقي على تبني هذا الموقف، بشكل غير مباشر.
________
*جريدة تشرين

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *