زهرة مرعي
بيروت ـ «الجنس الثالث» جديد الشاعرة والكاتبة جمانة حداد، صدر مؤخراً عن دار نوفل بنسختين عربية وإنكليزية معاً. من خلال هذا المؤلف تقدم الكاتبة مقترحاً جديداً للانتماء إلى نسخة مبتكرة من الجنس البشري، أطلقت عليها «الإنسان الإنسانوي». عللت مقترحها أو رغبتها تلك باستحالة انتمائها الشخصي إلى فئة السفاحين والجزارين. سردت بعضاً من هؤلاء على مر العصور وصولاً إلى حاضرنا، مركزة على أولئك الذين يمارسون القتل والذبح والإبادة باسم الدين والله.
الحاضر الذي يشهد ازدهاراً في القتل والذبح، والتنكيل السياسي والديني حفّز الكاتبة لطرح أسئلة لا حصر لها. ولم يكن الماضي بمنأى عن فكرها وفيه كانت الإبادات جماعية وتصل أحياناً لقتل ملايين البشر. تسأل حداد: هل أتشارك المكوّن الجينيّ والقاسم الإنسانيّ نفسه، مع هؤلاء القتلة وأمثالهم؟ هل ننتمي إلى جنس بشري واحد؟ أليست هناك نسخة أخرى راقية، من هذا الجنس البشريّ، يمكنني، وسواي ممَن ليسوا كهؤلاء المجرمين، أن ننتسب إليها؟ بالتأكيد من حقها النأي بنفسها عن أمثال هؤلاء.
تعرّف الكاتبة الإنسان الإنسانوي بأنه: يعيش حياته، لا يؤديها. (…) ليس قديساً ولا شيطاناً، لا بطلاً ولا بطلاً مضاداً: هو خارج لعبة الأبيض والأسود هذه. ومن ثم تعزز مقترحها هذا بنشيد أفلاطوني. بحسبها يعرّف أفلاطون الإنسانية: إنسانيتكم هي شجرة السحر..التي في غابة وعيكم تنتظر.. بصبر.. أن تعانقوها من جديد.
وكما في بعض كتبها السابقة حداد المرأة والإنسانة موجودة بصراحتها المعهودة، وقدرتها الكبيرة على رفع الغطاء عن أمور كثيرة لا يزال مجتمعنا العربي يضعها خارج نطاق البحث والتداول. في هذا الكتاب تحكي تاريخ جيناتها العائلية، لاسيما لجهة الأم. بكل وضوح وصراحة تعترف تحت عنوان «قاتلي الخفي». إذن يكمن الاكتئاب لجمانة حداد، كما سبق وكمن طويلاً لجدتها وشقيقة جدتها، ولإحدى خالاتها، «وقد نجح في قتلهنّ جميعاً».
سبعة أقسام شكلت محتويات كتاب جمانة حداد توزعت بين البحث بهدف الإقناع بمسوغات «الجنس الثالث»، وتالياً تسويقه وتوسيع شبكة المنتمين إليه، وبين سيل من أفكار أخرى لها في الحياة. هي كاتبة متمكنة من الدفاع عن أفكارها. تملك قدرة بث الحيوية في كتاباتها كما في نفوس القرّاء. بشكل عام هي امرأة حيوية ونشيطة وهذا ما ينضح من جُملها، «نحن لا نولد من الخمول والإهمال والركود، بل إنّ جينة الكفاح هي أكثر ما يميّزنا كمخلوقات بشرية». وتضمن صفحاتها قسماً لا بأس به عن ذاتها، ومن ذاتها. تعترف بأن الفقر كان ملازماً لعائلتها في الصغر، وليس العوز. هو ليس اعترافاً مجانياً، بل ورد في سياق جزئية من السيرة الذاتية. سواء عبر ما تكتبه، أو من خلال اختيارات معبّرة لكتاب أو فلاسفة مرّوا في التاريخ الإنساني، فهي في كلا الحالتين تأبى الركود. تحت عنوان «وصية أفلاطون أن تنحسري أو ترحبي» نقرأ ما كتبت: هل تعرفين الحصاة الصغيرة.. التي، إذ تُرمى في بحيرة.. توقظها من غفوتها؟ وعلى الدوام ترفد جمانة حداد كتاباتها بتجاربها الغنية في الحياة، لاسيما توقفها بوصف دقيق عند تجربتها مع الفقر. أما معالجتها المتكررة لما سمته في هذا الكتاب «الفعل المحرّم» أي الجنس، لاشك أنه يشكل واحداً من أهدافها ككاتبة وإنسانة لا تمارس فعل التخفي خلف الأصبع، بل ترتكب فعل الكتابة عن هذا المحرّم الذي ينهش العقول ويعطلها عن الفعل الإيجابي، بكل الصراحة العلمية، والشعورية كذلك. وفي هذا الكتاب تسرد بكل صدق ووعي كيف كان حالها في المراهقة حين دب في شرايينها حافز المعرفة عن ذاك «الفعل المحرّم».
يذكر أن «الجنس الثالث» تضمن حوارات متفرقة مع كائن يشغلنا جميعاً ربما، إنه الوسواس. أسرفت جمانة حداد في استحضاره، وفي منحه شخصية ذات سلطة وسطوة، ومن خلاله سعت لمزيد من الإقناع بوجهة نظرها المبتكرة عن «الإنسان الإنسانوي»، أو «الجنس الثالث» الذي صدر في 225 صفحة من الحجم المتوسط.
_______
*القدس العربي