*بسمة النسور
لا شك في أن الموقف ينطوي على إزعاج كبير، ولا يخلو من حرج وضيق، وهو كفيل بتكدر المزاج، لا سيما إذا ما حدث في الصباح الباكر في عز أزمة مرورية، غير رحيمة، وفي ظروف جوية استثنائية، حيث المطر ينهمر بشكل غير مسبوق، من المؤكد أن سيدات عربيات كثيرات مررن بتجربةٍ غير سارة ومربكة كهذه. ومن المتوقع أن ردود أفعالهن إزاء الحدث لم تختلف كثيراً، في الغالب الأعم، ونظراً لطبيعة الموقف الذي يُفرض عليهن يتخذن رد فعل محدداً، يقتصر على التسليم بالعجز وطلب النجدة.
تسرد الحكاية التالية مهندسة مدنية في مقتبل العمر، تعمل في شركة عقارية كبرى، تمتلك سيارة (نص عمر)، غير أنها أنيقة تزينها دببة زهرية اللون، وعبارات لطيفة عن ضرورة الابتسام. لم تكمل دفع أقساطها بعد، قالت (الباش مهندسة): أحسست بسخافة موقفي الذي لا أحسد عليه، علاوة على أن التوقيت كان سيئاً للغاية، حيث كنت في عجلة من أمري، وقد تأخرت عن اجتماع مهم، تعبت كثيراً في الإعداد له، وحضرت نفسي جيداً، من أجل تقديم ورقتي وإبهار المديرين، علهم ينتبهون إلى مهارتي الفائقة في الإدارة وحسن التصرف، حين (حردت) سيارتي، وأعلنت عصياناً ميكانيكاً، صبيحة يوم ماطر في داخل النفق المؤدي إلى الدوار الثالث، ما يعني للعارفين في الشأن المروري العماني، المتأزم شتاء على نحو خاص، أن هذه الواقعة المؤسفة جرت في نقطة شديدة الحرج، تشهد كثافة مرورية طوال النهار، ما أربك حركة المرور، وأثار غضب السائقين الذين حُشروا رغماً عنهم في النفق، محتجين على تنغيص يومهم الماطر البارد الواعد بالنكد.
أحسست بالعجز الكامل بسبب جهلي المطبق، إذ لم يكن لدي أدنى فكرة عما اعترى السيارة من كرب، وما الذي دفع بها كي “تتنح” في عرض الشارع على نحو مفاجئ. هكذا ومن دون مقدمات، حرنت مثل بغل عنيد. لمت نفسي بشدة على الكسل والإهمال، وهو ما يميز معظم السيدات السائقات على ما أظن، في هذا السياق، حيث تقتصر العلاقة مع السيارة بالنسبة لنا على التحكم بالمقود، وتعبئة السيارة بالبنزين من دون مغادرة مقاعدنا، حتى إنني صرت أتذكّر وعوداً قطعتها على نفسي، ولم أف بها حول ضرورة تعلم بعض الإجراءات الأساسية المتعلقة بالسيارة، مثل؛ خطوات إصلاح (البنشر)، وهي مسألة ليست بالغة التعقيد كما فهمت، وقبل أن أشرع في اتصالات أطلب فيها النجدة، وهو بالمناسبة، ومن دون أدنى فخر (!)، الإجراء الوحيد الذي أتقنه في حالاتٍ كهذه. كان أكثر من شاب قد تطوع من تلقاء نفسه، وركن سيارته وتعاونوا معاً على جرّ السيارة (الحردانة) خارج النفق، ثم أصلحوا الخلل المتعلق بالكهرباء، ونصحوني بعرضها على اختصاصي فوراً، ومع سعادتي بالتخلص من هذا المأزق الحرج، بفضل أولئك الشبان، أصحاب النخوة، حيث استبعد أي شبهة محاولات تحرّش، أو استغلال لحالة ضعف أنثوية، بسبب أسلوبهم الوقور المحترم والمهذب، لم يكتفوا بموقف المتفرج، بل بادروا إلى إغاثتي، وتخليصي من هذا المطب، قبل حتى أن أطلب معونة أحدهم، ما جعلني أحس وأصدق وأتبنى وأدافع عن مقولة أن الدنيا “لسه بخير”.
حكاية بسيطة مفرحة تبعث على الأمل، روتها صديقتنا المهندسة الطموحة التي تقرّ بأنها سائقة غير ماهرة، فيما يتعلق بشؤون قيادة السيارات. المفجع أننا لم نعد نجد سلوك أولئك الشبان النبيل عادياً ومتوقعاً، بل بات يثير دهشة أيّ منا، ولم نعد نستهجن، لو حدث عكسه، حيث تتعرض النساء اللواتي يقدن السيارات إلى أشكال مختلفة من الاضطهاد، مثل السخرية والتشكيك في أهليتهن للقيادة، وكذلك محاولات التحرّش السمجة التي تتم على الإشارات الضوئية، إضافة إلى المضايقات المتعلقة بقواعد السير وآدابه.
ما يحدث في شوارعنا من سلوكيات فظة فجة، تبعث على الأسى في أحيان كثيرة، غير أن تلك النماذج الإيجابية المشرقة التي تهب إلى النجدة والمساعدة بشكل تلقائي، تعبير عفوي عن منظومة تقاليد وسلوكيات اجتماعية، مبنية ومستمدة من قيم الشهامة والأصالة المتجذرة في ثقافتنا عنواناً، تظل حالة زاهية مطمئنة، ينبغي علينا الرهان على أمثالها، مهما ضاقت بنا الحال، لعل الدنيا لسه بخير فعلاً، ولعل هناك أسباباً تدعو إلى الابتسام حقاً.
________
*العربي الجديد