فيلم ‘مرغريت’.. احتباسات الأوبرا الوهمية والعجز عن شراء الموهبة


أمير العمري



كان الفيلم الفرنسي “مرغريت” للمخرج زافييه جيانوللي من أفضل ما عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، فهو عمل كبير بمستواه الفني الرفيع، وقدرة مخرجه على المزج بين الموضوعي والتاريخي، العاطفي والنفسي، في سياق من السخرية والمرح، ولكن دون أن يغيب الطابع الإنساني المشوب بالتعاطف، مع نغمة خفية من الرثاء الحزين لبطلته التي تريد “أن تكون” و”أن تتحقق”، لكنها لا تعرف ولا تقدر، بل ولا تملك من الموهبة ما يكفل لها أن تنال ما تصبو إليه، غير أنها رغم ذلك، تستمر في محاولاتها، غير واعية بالحقيقة القائمة من حولها، إلى أن تصبح ضحية نفسها وطموحها الكاذب.
بطلة الفيلم امرأة في أوائل الخمسينات من عمرها، هي البارونة “مرغريت ديمون”، سليلة الأرستقراطية الفرنسية. ونحن الآن في عشرينات القرن الماضي، بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى التي حصدت ملايين الأرواح. في المشهد الأول من الفيلم نشاهد حفلا تنظمه جمعية خيرية لرعاية ضحايا الحرب من الجرحى، رئيستها الشرفية هي البارونة مرغريت، التي ستغني الليلة أيضا أغنيتها المفضلة “ملكة الليل” من أوبرا موزار “الناي السحري”.

تصل مغنية شابة مازالت تتدرب على الغناء السوبرانو (الأوبرالي) متأخرة، إلى هذا القصر الفخم في الريف الفرنسي، قصر البارونة، حيث يقام الحفل. والمغنية الشابة استأجرتها البارونة بمشورة معاونها المطيع، للغناء في الحفل إلى جانب مغني شاب مقابل بعض المال الذي تتطلع الفتاة الفقيرة للحصول عليه. وهي تغني بما يكشف عن موهبة في الغناء الأوبرالي لاشك فيها. وتلقى استحسانا من الحضور. ثم تأتي الفقرة الرئيسية في الحفل التي ينتظرها الجميع بمن فيهم المغنية الشابة نفسها التي سمعت كثيرا عن تلك “الكاريزما” التي تتمتع بها البارونة.

صوت متحشرج

الحاضرون من جمهور الحفل تم اختيارهم ودعوتهم بعناية من أجل الحصول على تبرعات مالية للجمعية، كما أن البارونة لا تغني سوى لجمهور يأتي بدعوات مسبقة وليس جمهورا من العوام. أما “جورج” زوج البارونة فهو يتهرب من حضور الحفل، فهو يعرف جيدا ردءاة صوت مرغريت ومشكلتها الحقيقية وهوسها بنفسها بما لا يملك له دفعا.

مرغريت تظهر، وتغني، ويتصاعد صوتها فيعجز عن بلوغ الطبقات المنشودة، ويحتبس، ثم تحاول مجددا فتصرخ ويهتز “عرف الديك” الذي يزين القبعة التي تضعها على رأسها مع اهتزازات جسدها وتمايلها في معاناة محاولة إخراج صوتها بما يتناسب مع ما تغنيه، فتجعلنا نضحك مع الحضور الذين يتهامس بعضهم في سخرية، ويهرب البعض الآخر إلى غرفة جانبية، وترتسم على معالم وجه المغنية الشابة علامات الصدمة الشديدة، بينما ينتهز الفرصة شابان تسللا معا إلى الحفل دون دعوة، أحدهما صحفي متخصص في الموسيقى، والثاني من الشباب الفوضويين، الفرصة للاستهزاء والسخرية والتعريض بالبارونة في حين لا يكف أحدهما عن سرقة بعض محتويات القصر من القطع الفنية الصغيرة، وحشو جيبه بقطع من الحلوى التي يلتقطها خلسة.

في اليوم التالي ينشر الصحفي الشاب الطموح الذي يريد ابتزاز مرغريت والحصول منها على أكبر قدر من المال لتأسيس دار نشر خاصة به، مقالا غامضا يمكن فهمه من ناحية ما باعتباره مديحا لأداء مرغريت. يقص رئيس الخدم الأسود المطيع المقال من الصحيفة الفرنسية اليومية الشهيرة، ويقدمه لها فتشعر بالسعادة والابتهاج وتتشجع أكثر وأكثر. لكن هذا الخادم الذي يدير المنزل ويسيطر على باقي الخدم، يخفي عنها كل ما نشر في الصحف الفرنسية من مقالات نقدية سلبية، تنتقد إصرارها على الغناء العلني في حين أنها لا تمتلك سوى صوت منفر شديد الرداءة. ونحن لا نستطيع أن نعرف أبدا مصدر كل ذلك التعاطف من جانب هذا الرجل، لسيدته، هل هو شعور بالولاء، أم الحب والرغبة في إدخال السعادة إلى نفسها بأي شكل كان.. وخصوصا أن هذا الولاء سيصل إلى أقصاه في ما بعد.

شخصيات الفيلم

لدينا الآن ثلاث شخصيات رئيسية في الفيلم: مرغريت، وجورج، والخادم الأمين “ميدلبوس”، وشخصيتان أو ثلاث شخصيات فرعية: الصحفي والفوضوي والمغنية الشابة. سيتابع الفيلم علاقة الصحفي والفوضوي بما سيطرأ من مواقف وأحداث، لكن المغنية الشابة التي يتقرب منها الصحفي لنلمح شبح علاقة عاطفية قد تنشأ بينهما، سرعان ما ستختفي من الفيلم.

الشاب الفوضوي يريد إثارة ضجة باستخدام النزعة الطفولية لدى مرغريت ورغبتها في الظهور بأي ثمن، فهو يغويها ويشجعها على ضرورة تقديم عرض في إحدى نوادي باريس الليلية، مؤكدا أن ظهورها هناك سيكون “قنبلة الموسم”. وعندما تظهر في المكان المعتم، تقف لتغني أمام شاشة يعرض عليها فيلم من أفلام الحرب التسجيلية، فتختلط صورتها مع صور الجنود، وهي ترتدي العلم الفرنسي، ثم تبدأ في ترديد نشيد المارسيليز الوطني، فيغضب الجمهور وتنشب مشاجرة كبيرة ويحطم الحاضرون المقاعد احتجاجا على هذا التهريج، ولكن مرغريت تستمر في الغناء بنصيحة من الشاب الفوضوي وهي سعيدة بنفسها، غير مدركة أن ما يحدث ليس سوى احتجاج عنيف على وجودها. وهي تنجو بأعجوبة من بين أيدي جماعة الفوضويين الذين أرادوا لفت الأنظار إلى احتقارهم للفنون التقليدية، لتواجه مجلس إدارة الجمعية التي ترأسها، ثم يتمّ إعفاؤها من رئاسة الجمعية، بدعوى أنها أهانت الجيش الفرنسي.

الزوج الانتهازي

زوج مرغريت “جورج”، يبدي قرفه واستياءه من سلوكها، لكنه لا يستطيع أن يخبرها بالحقيقة… بل ولا يبدو أن هناك أحدا يجرؤ على اطلاعها على الحقيقة تفاديا لأن يفقدوا جميعا ما تحوطهم به من رعاية ودعم مالي، بل إن جورج يعترف لعشيقته التي يلتقيها سرا، بأنها “اشترته بمالها”.

تتطلع مرغريت بنصح من خادمها، بضرورة الحصول على تدريبات احترافية على الأداء استعدادا للظهور في حفل عام على المسرح في قلب باريس أمام جمهور حقيقي يشتري التذاكر. وتلجأ للاستعانة بأشهر مدرب، وهو مغني أوبرا روسي لم يعد يجد ضالته في مسارح باريس. لكن الرجل يرهن قبوله بإجراء اختبار أولي، ورغم الإغراء المالي يجدها الرجل حالة ميؤوسا منها تماما فيرفض تدريبها، لكن زيارة ليلية من جانب خادمها المخلص الأمين، يلوّح له خلالها بكشف بعض أسراره الشخصية ومنها علاقاته المثلية، تتكفل بإقناعه بقبول المهمة.

وفي مشهد فوتومونتاج بديع وساخر، يجعلنا المخرج جيانوللي نشاهد مجموعة من اللقطات الساخرة المضحكة، لمرغريت وهي تلهث، يقنعها مدربها الذي يشعر بالغيظ والحنق في قرارة نفسه، بضرورة إجراء تدريبات رياضية عنيفة مرهقة، بدعوى التحكم في التنفس وحركات البطن والصدر، والرجل يكظم غيظه وهو لا يرى أملا ولو ضئيلا في أن تحقق أي تقدم طبقا للمثل القائل “فاقد الشيء لا يعطيه”. لكن بالإصرار والمال والاستمرار في الشعور بالقناعة الداخلية العميقة بتوفر الموهبة لمجرد وجود الحب.. أي حب الغناء، تتمّ إقامة الحفل المرتقب.

تنتشر الدعاية في كل مكان، وفي ليلة الحفل يمتلئ المسرح بالجمهور، تظهر مرغريت في ثياب الملائكة بجناحين، وتشرع في الغناء. في البداية يخرج صوتها رائقا صافيا للمرة الأولى، ولكن لا تمر سوى برهة وفجأة يحتبس صوتها وتعجز عن الغناء، تتحسس رقبتها وتصرخ من شدة الألم ثم تسقط على خشبة المسرح أمام الجمهور عاجزة عن الحركة، وتُنقل إلى المصحة للعلاج من نزيف حاد أصاب حلقها.

ترقد البارونة البريئة على فراش المرض وتطول فترة علاجها. تنتظر بلا جدوى زيارة من زوجها الذي تعتبره أهم ما في حياتها.. يستمر نفاق الطبقة العليا والانتهازيين الصغار من حولها، لا أحد يجرؤ على أن يخبرها بالحقيقة. ولكن الطبيب الذي تتلقى العلاج على يديه، يصر على ضرورة أن يسمعها صوتها لتحقيق الصدمة المطلوبة التي يراها وسيلة علاجية ناجعة. وعندما يعلم زوجها، يسعى للوصول إلى المكان لكي يمنع وقوع الكارثة. لكنه يصل كالعادة، متأخرا.

قد تكون النهاية صادمة بعض الشيء. وربما متوقعة. فمرغريت تسقط ربما ميتة أو مصابة بشلل ما، بعد أن تستمع للمرة الأولى، إلى صوتها وهي تغني الأوبرا. لكن الثلث الأخير من الفيلم يصبح مركزا على روح هذه المرأة، على ولعها حد الإدمان بالغناء السوبرانو. إنها لا تستطيع أن تستغني عن سماعه كل ليلة، كما تغني لنفسها أمام المرآة، ثم كيف أنها على العكس من كل المنافقين من طبقتها الذين يحيطون بها بل وحتى ذلك الخادم الحريص على إرضائها ولو بتضليلها وخداعها، هي الأكثر نقاء وإخلاصا من الجميع، فالحقيقة غائبة عنها وبالتالي هي لا تمارس خداع النفس بل هي فقط، لا تعرف.. بل تحب فقط.. تحب الغناء كما تحب زوجها حبا كبيرا.. تعرف أنه يخونها لكنها تحبه تريد استعادته، أن تلفت أنظاره بغنائها أو بموهبتها المتخيلة، تريده أن يقتنع بأن لديها شيئا آخر تعطيه غير المال والثراء. وهي في سبيل ذلك لا تريد أن تتوقف لتتأمل في الحقيقة، أو في رد فعل الذين يستهجنون غناءها ويشيحون بوجوههم عنها ويسخرون منها.

الضحك والرثاء

من الفكاهة والكوميديا ينجح المخرج الكبير في الاتجاه تدريجيا نحو المأساة، نحو بلورة الجانب الروحي في الإنسان، وكيف يمكن للحب أن يدفعه إلى التعامي عن الحقيقة. هل مرغريت مذنبة أم ضحية، عاشقة أو واهمة؟ هل من الممكن أن نغفر لها ذلك الحب كله للفن وللموسيقى حتى لو لم تكن موهوبة؟ وهل كان يجب أن تُصدم على هذا النحو القاسي في النهاية بعد أن ظلوا من حولها يزينون لها ما تفعله ويمارسون عليها الكذب والتضليل خدمة لمصالحهم الشخصية؟

الموسيقى في الفيلم تُستخدم في اللحظات المناسبة، والديكورات، الأماكن، المشاهد الخارجية، الإكسسوارات، كلها تخدم الموضوع، فهي تأتي دقيقة في تصميماتها، وتتضافر كل جوانب الإنتاج من أجل تجسيد الجو العام للفيلم، تفاصيل الفترة، توصيل الشعور بالتناقض بين الفخامة والباروكية الأرستقراطية في المناظر الداخلية بما يتلاءم مع أجواء الأوبرا، وتناقضها مع ملابس وأداء وصرخات مرغريت وهي تكافح للتعبير بصوتها الذي يعانده ضعف حنجرتها.

فيلم “مرغريت” عمل إنساني يمتلئ بالدروس، في الإخراج كما في الأداء. فالممثلة الفرنسية الكبيرة كاثرين فرو في دور مرغريت، تصل إلى قمة الأداء؛ فهي المرأة- الطفلة، التي لا تبدي أي اهتمام حقيقي بالمال بل تودّ لو أنفقت كل ما لديها من أجل إشباع ولعها الصادق بالفن. إنها تتمزق بين حبها لزوجها ورغبتها في لفت نظره إليها، وبين حبها بل اندفاعها نحو الغناء الذي تؤمن بتفوقها فيه ولا تجد مبررا لأن يكذب عليها الجميع. طفولية مرغريت وبراءتها حدّ السذاجة، وتشنجاتها المميزة وهي تغني وما تصدره من أصوات نشاز، وتلك العلاقة الغريبة الكاريكاتورية بين المغنية والمدرب الروسي العملاق (الممثل ميشيل فاو) الذي يبدو أكثر اهتماما بالتهام الطعام الشهي الذي يعده الخادم الصامت الأسود الذي يخفي أكثر مما يظهر (الممثل دينيس مبونجا) أكثر من اهتمامه بتدريب مرغريت.

هذا الطاقم من الممثلين الكبار هو ما يجعل من مشاهدة الفيلم رغم أيّ هفوات أو إطالة تجربة ممتعة مثيرة للخيال والفكر.

أخيرا تتعين الإشارة إلى أن موضوع الفيلم يستند إلى قصة حقيقية، فهو مقتبس من القصة الحقيقية للسيدة الأميركية الثرية فلورنس فوستر جنكنز (1868 – 1944) التي أنفقت الكثير من المال لكي تصبح مغنية، وكانت فاقدة للموهبة، لكنها كانت تفسر ضحكات الجمهور الساخرة بأنها تصدر عن عملاء زرعهم من يغيرون منها ويريدون الإساءة إليها.

وكان أصدقاء لها يكتبون مقالات المديح، ويقال أيضا إنها كانت تكتب بنفسها بعض تلك المقالات. أما “مرغريت” في الفيلم فهي نموذج مختلف، فسيناريو زافييه جيانوللي ومارسيا رومانو، جعلها أقرب إلى البراءة الطفولية، شخصية تتصف بالصدق والشفافية ولكنها لسوء حظها، لم تكن تستمع قط إلى صوتها وهي تغني.

يستعدّ المخرج البريطاني ستيفن فريرز للبدء في تصوير فيلم عن “فلورنس جنكنز” على أن تقوم بالدور ميريل ستريب. ولا بدّ أن ننتظر حتى يمكن لنا أن نقارن بينهما.
________
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *