إسماعيل قدري.. أول من قال “لا” في بلاده


علي عبيدات *


خاص ( ثقافات )

أن يكون الكاتب عضواً في برلمان بلاده لثلاث دورات نيابية، وبالتالي جزءاً من سياسة الدولة، وبالوقت ذاته ينادي للانفتاح الذي كان النظام السياسي وقتذاك لا يرحب به، وأن يشهد على فترة انحلال بلاده التي كان كيانها السياسي مربكاً باعتبارها لا مع الشرق ولا مع الغرب منذ أن حطّت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فتركت الشيوعية رغم أنها اشتراكية ورفضت تشارُك العالم بها وشراكتها به رغم حضور القوى الدولية حول حدودها، كل هذه الثنائيات تتلخص بالروائي الألباني العالمي إسماعيل قدري، وبألبانيا التي تتمتع بالموقع الأكثر قلقاً بين موازين قوى العالم في زمن الحرب والدمار والأطماع وولدت بمخاض صعب بعد الحرب العالمية الثانية بنظامها الشيوعي المستحدث على يد إنفر خليل هوجة أو أنور خوجة (1908-1985) الذي خرج ببلاده من رعب الجغرافية السياسية.

عندما يذكر المرء ألبانيا لا يخرج عن مدار اسمين بارزين هناك، الأول خوجة والثاني هو الروائي الذي دخل إلى عالمية الأدب بروايته المشهورة “جنرال الجيش الميت” التي كانت حرب إيطاليا على ألبانيا عصبها الرئيس بعد أن جعل بطلها ضابطاً في الجيش الإيطالي مهزوم في كل أجزاء الرواية إعلاءً لشأن بلده التي لم ولا يراها مهزومة أبداً، ولعل المهمة الموكلة إلى هذا الجنرال تشي لنا بالوطنية المفرطة التي كلَّلت نسقه الروائي، فالجنرال مكلف بأن يحضر أشلاء ورفات جثث الطليان بعد الهزيمة التي لحقت بهم في ألبانيا، ووصل صوت ألبانيا إلى العالم كله بهذه الرواية وحطَّت بركب كاتبها على تلال العالمية، لتترجم أعماله إلى العديد من لغات العالم الحية وهو يدخل إلى عالم الأدب في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات.

وثَّق إسماعيل قدري تاريخ بلاده وأهم المراحل التي كانت تؤثر عليها سلباً وإيجاباً بأعماله الروائية، فإذا أردت أن تقرأ الطابع النفسي العام عند الألبان بعد السجالات السياسية بين ألبانيا وروسيا وكيف قطعت العلاقة بين كيان ألبانيا الغض وروسيا التي كانت تتزعَّم المشهد السياسي العالمي في وقتها، فستجد إسماعيل قدري يرسم هذا في روايته (الشتاء الكبير 1973) التي وازن بها بين ما حدث في بلاده وما أراده ببسط دقيق لرفضه الأنظمة الشمولية التي عاثت خراباً في العالم وظل مناوئاً لها في كل مؤلفاته، والأخرى (غروب آلهة ستيب)، وكذلك رواية (حفل نهاية الفصل 1988) التي تسببت له ببعض المتاعب لأن سقف آرائه بالعلاقات الألبانية الصينية كان مرتفعاً إبان القطيعة بين الدولتين.

أصبح إسماعيل قدري الرافض الأول للأنظمة الشمولية التي عادت على العالم بالخراب والويلات ونسف الدول الصغيرة وخلخلة كيان الدول الكبيرة، مما أساء للبشرية وكبَّد الإنسان ثمناً باهظاً بسبب جنون تلك الأنظمة، ومن رواياته التي نكلت بهذه الأنظمة وعرت الشمولية (طبول المطر 1970) و(قصر الأحلام 1981) و(الوحش 1990) و(الظل 1994) و(هملت الأمير المستحيل 2007(، وغيرها من الروايات التي لم تترجم إلى العربية.

روايات طويلة وشخصيات بين الأسطورية والواقعية، تساهم كلها في البحث عن الحرية وترفع من منسوب الرفض بين مكونات العمل الروائي الذي امتاز به إسماعيل قدري، حتى أن بعضهم شبه زخمه الروائي وكثافة أعماله الروائية -كل على حدة- بنفس شكسبير الطويل على الكتابة واستلهامه من الماضي ليخدم به واقعه ورؤيته التي عرف بها وهي رفض الاستبداد والبحث عن الحرية، ولعل اهتمامه بالتراث الألباني والهوية الألبانية الخاصة في الأدب والتراث والأساطير جعل منه روائياً ألبانياً أصيلاً يدافع عن وطنه ككيان، وعن شعبه كهوية. راعى تاريخه وإرثه وتطلعاته وأحلام ساكنيه.

خدمت شاعرية قدري بنيته الروائية وسلاسة مشاهده، وقد بدأ في بواكير دخوله إلى عالم الأدب شاعراً، وكانت قصيدته الأولى في سن الحادية عشرة وديوانه الأول في سن السابعة عشرة تحت عنوان “استلهام شباني”، لكنه ما لبث أن فارق الشعر واتجه إلى الرواية التي فتحت له باب العلو في التعبير باتساع مساحة الرواية التي تعطي صاحبها مساحة أكبر للتعبير، فكيف تتسع القصيدة لرؤاه الوطنية وآرائه في الحرية والاستبداد وتهكمه وبوليسيته أحياناً، فاتجه إلى الرواية لأنها متسعة الأكناف تفي تسكعه في المشارب الفكرية حقها، خصوصاً اطلاعه الواسع على الأساطير والتراث الذي يحتاج إلى مشاهد وبنية روائية ليبثه بنفسه الروائي الطويل.

وكان قدري مشهوراً بالذاتية المفرطة، على حد قوله، في إحدى المقابلات الصحفية، سواء وهو سياسي في البرلمان أم بعد أن أبعده الحزب عن البرلمان لأنه لم يكن ينفذ إلا ما يمليه عليه فكره، ومن هذا موقفه من أحداث 1982 الدامية التي نشبت بين الصرب والألبان، وجاء هذا في قصة طويلة له (قافلة العرس تجمدت) أسقط من خلالها قصة الصرب والألبان برمزيّة عالية، ويرى فيها أن التحاب المطلق بين الطرفين مستحيل رغم توفر سبل الاتفاق الذي شبهه بالعرس في قصته، وبالوقت ذاته كان ضد الحقد التاريخي ولا يؤيد طرفاً من طرفي الصدام تأييداً مطلقاً.

وفي باب جائزة نوبل، ولج إسماعيل قدري غير مرة باب التكهنات والترشيحات إلى نوبل كحال صحبه أدونيس وفيليب روت وميلان كونديرا وغيرهم، ممن تشير إليهم التوقعات لنيل الجائزة دون فائدة، واكتفى بمنحه عام 2009 جائزة أمير أستورياس الإسبانية المرموقة وتعيينه عضواً دائماً في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1996 خلفاً للفيلسوف كارل بوبر، ونال أيضاً الجائزة العالمية تشينو دل دوكا عام 1992 وجائزة مان بوكر عام 2005، وغيرها من التكريمات في أماكن مختلفة من العالم، وإسماعيل قدري مولود عام 1936 بمدينة غجيروكاستير جنوب ألبانيا، وغرزت فيه جدته حب القراءة وقصص الألبان الأوائل فشغف في كتب السحر والأساطير في بداية مشواره، ونتقل بعدها إلى جامعة تيرانا ليدرس الأدب بموسكو قبل عام 1960، ودخل ألبانيا بعد هذا صحافياً تاركاً خلفه الأدب الاشتراكي، وانصرف إلى الأدب الغربي ودفع الكثير من سنوات عمره لأنه كان إشكالياً في شؤون بلاده الداخلية، الأمر الذي قاده إلى المنفى في باريس عام 1990.

من زمن الحرب والقمع والقامات الأدبية السامقة جاء إسماعيل قدري، لا ينتمي لأحد إلا للحرية والكتابة عنها، حتى أنها يصف الإسلام الذي ينتمي إليه بأنه لا علاقة بينه وبين الإسلام، ودون هويات أو حسابات عرقيّة كتب إسماعيل قدري رواياته وقصصه وشعره على نهج إسماعيل قدري فقط، وهو أول روائي يخرج من ألبانيا التي كانت مصابة برعب الجغرافية السياسية والبلقنة ليصل صوته وصوتها إلى العالم كله، وحتى اليوم يقيم إسماعيل قدري في باريس حتى قيام شرط عودته إلى ألبانيا وهو إقامة الديمقراطية وطمس تاريخ القمع، وفي جعبته مسيرة أدبية تجاوزت نصف قرن وأعمال أدبية تجاوزت الستين عملاً بين رواية وشعر ومسرحية ومقالة.

*شاعر ومترجم أردني.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *