*رتيبة كحلان
خاص ( ثقافات )
إلى: رضوى عاشور
إنها الحياة .. لم أجد غير هذه العبارة لأعبر النقطة الأخيرة من كتاب رضوى عاشور الأخير: أثقل من رضوى حيث لم يكن سهلا علي الانتهاء من قراءته، لقد قضيت شهرين كاملين وأنا أُؤَخِر انفصالي عنه لأنني بطريقة ما كنت أجد العزاء وأنا أقرأ لها سطورا قليلة كل يوم .. كنت أنصت إليها وهي تجرّنا خلفها حيثما ذهبت .. كانت تلحّ من خلال تكرار نداء الخطاب بما يجعلك تركّز معها في كل كلمة قد تكتبها غير غافلة عن كونها تجرُّك إلى حديث اعتقدت أنه ممل ولا يعنيك وهذا ما كانت تشير إليه بين الفينة والأخرى فتجعلك قريبا تتعلق بمواصلة القراءة كأنك تستمع/(تستمتع) بحديث يخصك، ويثير فيك الفضول وأنت تتأمل شهادتها، روايتها، تقسيمها الدقيق للفصول بين العافية والمرض، بين الحضور والغياب، بين وجعها المنشطر بين جسد عليل ينشد العافية وبين روح خاضعة لاهتزازات وطن كبير، بين صخب الميادين وتوالي الجنازات، بين جدية أستاذة الجامعة وسخرية المرأة من زمن لا يشبه هذا العصر، قلت بعد أن أقفلت الكتاب إنها (الحياة) لأعبِّر عن كل ما لا يُعبَّر عنه وربما لأختصر قصور الكلمات التي قد تخذلني لأقول بكل صراحة عن الذي أثقل رضوى ما بقي عالقا بذهن قارئ منتبه .. ها أنا أحاول أن أقول شيئا ومع ذلك يصعب علي استعمال ضمائر الغياب لأشير إلى رضوى لأني أتفقد حروفها فيطغى علي حضورها، وها هي تتركنا مثلها عاجزين عن تخيل غد واضح لمصر.
كانت رضوى داخل الميدان وخارجه .. سرنا معها في جنازات الشهداء ذكرتهم واحدا واحدا دون أن تثقل على المتلقي فقد صار طرفا منذ الفقرة التي كسبت فيها رضوى تعاطفه، استشعرنا ألم العيون المستهدفة والبصر المهدد برصاص مطاطي موجّه من قنّاص وطني الصنع، كانت العجوز الستينية كما تصف نفسها عابرة للأحداث، تكتب بحميمية المفارق واستطاعت بوصفها الدقيق لكل ما حدث أن تختصر الزمن وتترك لنا حرية الحكم، وما كان سهلا عليها أن يُقتل المصري بيد يعرفها، ثم ها هي رضوى المريضة لا تفارقها لهجة السخرية تجلسنا معها على الصفيحة المعدنية حين تجري فحص الرنين، وتسافر بنا إلى حيث الثلج لا يحول بينها وبين الجراحات المتكررة وقبل هذا الكتاب لم أعلم أن هذه المرأة قد عاشت بين جدران المشافي وانتقلت بين الكثير منها دون أن تتوقف عن الكتابة وكانت سطورها ثقيلة وجارحة تترك الانطباع أنها كتبت دون أن تكون راضية على ما خلفته، كانت تريد أن تقول أكثر من الحقيقة ولا يفوق الحقيقة إلا الموت.
قالت رضوى: (لا أحد يجرؤ على الرحيل مخلفا وراءه كل هذا الحب)، ومع ذلك رحلتِ وكان مريد منحنيا على نعشك وكان تميم يحدق في الفراغ، خلّفت وراءك شاعرين قد يستيقظان كل ليلة ليتفقدا أوراقك وقلبك الذي قسم نبضه هنا وهناك، ويسألهما النسيان: لماذا يتناولان وجبته دائما باردة ؟
رضوى ابنة الجامعة الوفية والتي تُكثر الكلام حين يتعلق الأمر بها لذا قالت الكثير عنها دون إسراف أو هل يصح أن أقول دون اقتصاد ؟ وفي كلتا الحالتين تشدنا بحس الانتماء الذي يعززه الزمن والإنجاز، ها قد كتبت لنا عن كل ما كان يحدث داخل الجامعة لتقدم شهادة واضحة بأن ما حدث في ميادين الاعتصام يجد له جسورا إلى كل العوالم الحية التي تحيط به ربما لأنها الشوارع الصغيرة التي تنشأ فيها بذور الوعي أي أن الجميع يدفع الثمن على حد سواء بمجرد أن يتعاطف مع الآخر، من الصعب اختصار الكثير الوارد في كتاب ثقيل كتبته رضوى لتختم بها مسارها الإبداعي قبل الرحيل بقليل إلا أن به دما كثيرا أغرق انتفاضة الأمل تلك وبين الموت والإعاقة والبصر الضائع يرتفع الغاز المسيّل للدموع ليعصر ما تبقى من حياة كأن كل البكاء الذي عرفناه لا يكفي حتى يضاف إلينا بكاء بالإكراه !.
من الذي كان يكتب عن رضوى ؟ هل الذاكرة المتخمة .. النازفة أم الوفاء للانتماء حتى لو كان جرحا مفتوحا ؟ وما مدى ثقتنا بالرأس الملفوفة بالضمادة في رحلة ذهاب وإياب دفاعا عن الحق في العافية ؟.. أوجعتني الصورة التي نقلتها لطلابها الذين حملوا لها بالونات ملونة على كل واحدة منها عنوان كتاب لها وهم يستقبلونها في المطار بعد عودتها من الولايات المتحدة الأمريكية بعد سلسلة عمليات معقدة .. قد يبدو هذا الكتاب عاديا ومن السهل تصنيفه ضمن مؤلفات السيرة الذاتية لكنه الكتاب الأسود لما أوشك أن يكون ثورة أجهضت بفاتورة ثقيلة دفع كل واحد منا ضريبة تضامنه مع الآخر ورفضه لأن يُحوَّل الزمن إلى راعي رسمي لخيباتنا بامتياز، رضوى التي لم تنحن للمرض ولم يثبطها تعب العمر ولم يستعبدها الخوف من أن تؤهل حسّها بأنه: لا يليق بالوطن إلا الأفضل وكلنا مجندون إلى أجل غير مسمى، إنها كما قالت عن نفسها في آخر الصفحات: إنني من حزب النمل، من حزب قشّة الغريق، أتشبّث بها ولا أفلتها أبدا من يدي. وتضيف: من حزب العناد نمقت الهزيمة. لا نقبل بها. فإن قضت علينا، نموت كالشجر واقفين. عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أستدرك لأنهي حديثي بالسطر التالي: هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا.
كتبت رضوى كتابها الأسود للثورة لتقنع الأجيال القادمة أن ما وصل إليهم دفع من سبقهم أثمانا باهضة في سبيل أن يستمر، ولكن هناك دوما من يصادر الأفق أيضا ويبتاع لنفسه مقاعدا ينضج عليها يأسنا على نار هادئة، ومع ذلك كتبت رضوى دون أن تتنازل عن حقها في أن تترك أمامنا الخيار مفتوحا ليوم أبيض ندعوه (الغد) لأنه ربما يليق به أكثر من الورق.
ستمر سنة على رحيل رضوى عاشور سيظل طعم غيابها مرّا في نفوس من عرفوها وقرؤوا لها، وقد يعبّر الجميع بكلام كثير لا ينسى كما قال مريد في حفل تأبينها: افتحوا الأبواب لتدخل السيدة وكيف ندعوها للدخول من جديد وهي لم تغادر بعد ؟ إنها تسكن في كل زاوية من الحارات العتيقة للكفاح، وإنها من فصيلة من يدخلون القلب بالحرف، أؤلئك الذين يمجّدون الحياة ويبذرون منها الكثير في العقول ثم لن يكونوا مجرد أسماء على الرّف بل شرايينا تزرع في القلب، الآن قد أفهم يتم تميم لأم بحجم الوطن.
_______
*كاتبة من الجزائر