*أدونيس
– 1 –
هناك أُمَمٌ – مشروعاتٌ،
وهناك أمَمٌ – ذكريات.
قُلْ لي أين أنتَ من هذه الأمم، أقُلْ لك مَن أنت.
طبعاً، هذا لا يحولُ دون القول:
القلبُ في الأولى محيطٌ من الضَّغائنِ،
والعقلُ في الثانية فضاءٌ من الجُثَث.
لا يحول كذلك دون القول، بتنويعٍ آخر:
القدَم في الأولى وحلٌ أحمر،
والرّأسُ في الثانية ورقٌ – مجرّد ورق.
– 2 –
الأرضُ العربية أرضُ هجرةٍ وذكرياتٍ. في كلّ زاويةٍ منها شرفةٌ عاليةٌ يبدو منها جيّداً كيف تتحوّلُ الهجرة في الزّمن الحاضر إلى نوعٍ من الغرَقِ في محيطاتٍ من الرّماد.
نستعين بين الآلاف، بالمتنبّي. ونستحضر معه مختلفَ أنواع الهجرة التي عرفها من بغداد إلى القاهرة، مروراً بحلب، وطرابلس لبنان.
نستحضر ما قاله، متّصلاً بالمناسبة الرّاهنة: الهجرةُ هي أيضاً نوعٌ من القتل، كمثل ما وَصف به الموت: « الموت نوعٌ من القتل «.
مَنْ بين هؤلاء « المهاجرين « سيقول: شكراً للهجرة؟
مَن سيقول : شكراً للحياة ؟
مَن سيقول : شكراً للموت ؟
لكن، مِن المؤكَّد أنّ هؤلاء جميعاً سيكونون، في كلّ حال، ضدّ القَتْل. قَتْل أيٍّ كان، وفي سبيل أيّة غاية مهما كانت، ومهما بالَغَتْ في العلوّ.
– 3 –
للهجرة فضاءٌ تسبحُ فيه خرافاتٌ كمثل يَرَقاتٍ لا تتوقّف عن الرّقص.
وها هي تغزو الأسواقَ والشّوارع. تحمل على أجنحتها الواهنة قارّاتٍ من الكلمات والتخيُّلات والتوهّمات. تحمل كذلك سرطاناتٍ متنوِّعةً تتعلّم الطّيران. لكلّ سرطانٍ تاجٌ في قدمه اليسرى، وعرشٌ تحت قدمه اليُمنى.
والزّمن في هذا الفضاء بلا مكان، والمكانُ يترنّح في زمنٍ آخر.
وفي كلِّ جهةٍ أنْفاقٌ لغويّةٌ، تَسطَع فيها السّيوفُ والخناجر.
هل امتلأتَ، أيّها القارىء، برحيق الخرافات؟
– لست إلاّ شجرة. وكمثلها أكرِّر قولي:
لا أريدُ أن أتفَيَّأ إلاّ ظلّي.
ولا أكتمُكَ أنّني استيقظتُ أمسِ، شاعراً أنّ في صدري حشوداً من الشّظايا: بعضُها سيوفٌ وخناجر وسكاكين. وبعضها رؤوسٌ مقطوعةٌ، وبعضها أوراقٌ من كتُبٍ يقدّسها النّاسُ – بعضُهم، لا جميعاً.
إذاً، عليك أن تفحص لسانكَ أوّلاً،
قبل الرِّئة، وقبل المعدة.
وإذا خطر لك أن تعرف السرّ في كوْن الفضاء مُغلَقاً أمامَ الهجرة، فإنّ عليك أن تبدأ أوّلاً بأن تسألَ نفسَك:
من أين يجيءُ الدّمُ الذي يصبغ يديّ؟
– 4 –
بعد الخراب والمجازر، أستطيع الآن، مدعوماً بالرّمل، أن أُحدِّد معالم الأرض التي أنتمي إليها، والأرض التي «تهجرني»، والأرض التي أحاول أن أتوجّه إليها.
وأعرف أنّ جرارَ الأيّام تنكسر، وأنّ الدّمَ الذي يندلق منها، هو أوّلُ الصّحراء وآخِر الماء.
أعرف كذلك أنّ القطار الذي يخرج على شرائع المحطّات، هو وحده الذي يعرف كيف يرسم الطّريق.
– 5 –
– «هل تعتقد حقّاً أنّ السّماء هي التي ابتكرَتْ فنّ الهجرة، وأنّها هي التي تربّي أهلَها، وتسهر عليهم «؟ سألَني شرطيٌّ يحقِّق في الدّوافع الثانويّة للهجرة، إضافةً إلى أسبابها الأساسيّة.
قلتُ له : من أين لي القدرةُ على أن أتكلّم بلسان الغَيْم أو بلسان الغَيْب؟
أنظرْ إليهم، تفحَّص وجوهَهم: كلٌّ يفضّل أن يكون – لا الوردة، بل قاطِفَها.
وقلتُ له: سمعتُ أمسِ أحدَهم يروي كيف أنّ سيّارة الإسعافِ باعَت الأجسام التي كانت تنقلها إلى أجسامٍ أخرى غامضة تحرس المقابر. وكان قد ألقى حجراً ليقتل أفعى تسبح في بئرٍ يُستَخدَمُ ماؤُها لوضوء المصلّين، صارخاً:
نحو أيّةِ أرضٍ تسوق عواصفُ الهجرة هذه الحشودَ من البشر، كأنّها تسوقُ بلداناً من الغبار والهشيم؟
وروَيتُ له كيف أنّني اكتشفتُ مخلوقاتٍ رَخَوِيّةً في الكتب تعيش مدفونةً تحت ثلج الكلام.
ذُعِر المحقِّق. ولم يصدِّقْني، لحسنِ الحظّ. بل فرّ هارباً يتمتمُ هاذياً: رأسٌ ياقوت. أسنانٌ ذهَب. حطِّموا روحَ التّمثال. إيّاكم أن تَمَسّوا جسمَه. ترفّقوا بالمادّة!
– 6 –
الموت هو الغنيّ دائماً، سواءٌ في الإقامة أو الهجرة.
واليوم، خلافاً للعادة، غطَّت نجمةُ الصّباح نهدَيها خوفاً من ذبابٍ قيل إنّه لا يظهر إلاّ في الشّتاء، غير أنّه كما يبدو، حاضِرٌ في جميع الفصول، وبخاصّةٍ الربيع.
وكانت الجِراح قد فرّت أمام سيل الذُّباب، وفرّت المخيِّلة. واحتفاءً بهذا الفرار، قرّرت الهياكل النّورانيّة العائمة في الفضاء أن ترقص رقصتَها الأولى، أمام أصنامٍ من اللؤلؤ وأوثانٍ من الذّهب والْماس.
– 7 –
كيف لا تقدر الأنظمة أن تحدّ الهجرة، كما تحدّ الولادة، وتحدّ السّفر، وتحدّ الحرّيّة، وتحدّ الحقّ، وتحدّ العمل؟
هل لأنها تقود شعوباً تنتمي إلى ما بعد الثّقافة، أي إلى ما قبلها، أي إلى ما بعد التّاريخ أو إلى ما قبله؟
هل لأنّ شعوبها لم تعُد لديها أيّة قدرة إلاّ قدرة الاستسلام إلى أحضان الحوريّات؟
هل لأنّها فشلت في أن ترصد جزءاً من ثرواتها لابتكار عِلمٍ خاصٍّ بها وحدها لزراعة الأعضاء، يتمحور في المقام الأوّل على فنّ زراعة الرّؤوس؟
لماذا؟ لماذا؟
لا أعرف، لا أعرف.
إذاً، سِرْ أنتَ في الشّارع، لكن بطيئاً بطيئاً. قَلِّدِ الحجرَ والجدارَ والتُّراب. هذه عشيرتك، وأهلُك الأقرَبون.
سِرْ، واتركْني.
الآنَ أفهمُ تلك الصّدَفة التي رفضَت أن تحبل بلؤلؤة.
سِرْ واتركْني.
سأنامُ هذه الليلة في حضنٍ لا يعرف النّوم.
وسوف أتابع الكتابةَ،
كَمَن يوَشْوِشُ البحر.
________
*الحياة