رسالة إلى إسكافي أساء إصلاح حذاء


خوان خوسيه أريولا/ ترجمة: صالح علماني



خوان خوسيه أريولا (1918 – 2001) شخصية محورية في الأدب المكسيكي، وأحد أوسع الكتّاب المكسيكيين شهرةً على المستوى العالمي؛ ليس بسبب حسّ السخرية الخاصّ الذي يميِّزه فحسب، وإنما لقدرته، كذلك، على محو الحدود بين الواقع والخيال، في أعماله الكثيرة، في ميادين القصّة، والرواية، والمسرح.

اضطرّ إلى العمل، منذ نعومة أظفاره، في مهن متعدِّدة، فكان «بائعاً جوالاً، وصحافياً، وحمّالاً، وجابياً في مصرف، وعامل طباعة، وممثِّلاً كوميدياً، وخبّازاً، وكل ما تريده من مهن»، كما يقول هو نفسه. ومع أنه لم يُنْهِ مرحلة الدراسة الابتدائية، إلا أنه تعلَّم ذاتياً، ونال، عام 1976، الجائزة الوطنية للغة والآداب، ومنحته فرنسا وسام الفنون والآداب، برتبة فارس.

عمل في المسرح المكسيكي مع المسرحي الأبرز في بلاده رودولفو أوسيغلي، وعمل، في باريس، مع المسرحيَّيْن الفرنسيَّيْن: لوي جوفييه، وجان لوي بارو.

تبنّى الجمالية الطليعية، واستطاع أن يمنح قوة مفاجئة للقصّة القصيرة جدّاً في نصوص رسم فيها محادثات أدبية، وألعاباً كتابية، بأسلوب ساحر وفريد.
__________
حضرة السيّد المحترم،
بما أنني قد دفعتُ لحضرتك، بكل اطمئنان، النقودَ التي تقاضيتها مني مقابل إصلاح حذائي، فسوف تستغرب- دون شكّ- هذه الرسالة، التي أجد نفسي مضطرّاً إلى توجيهها إليك.
لم أنتبه- في البدء- إلى الكارثة التي حلّتْ، فقد تلقيتُ حذائي بسعادة بالغة، متنبِّئاً له بعمر إضافي مديد، وراضياً عن التوفير المادّي الذي حقّقته: الحصول على حذاء جديد مقابل بضعة بيزوات قليلة. (هذه هي- بالتحديد- كلماتك التي قلتها لي، والتي أستطيع أن أكرِّرها بحذافيرها).
ولكن، سرعان ما خمدت حماستي، فعند وصولي إلى البيت تفحَّصت حذائي بدقّة، فوجدته مشوَّهاً قليلاً، وقاسياً وجافّاً، إلى حدّ ما. لم أشأ إيلاء كبير اهتمام بهذا التحوُّل؛ فأنا عقلاني. وأيّ حذاء، بنعل جديد، يكون غريباً بعض الشيء، ويبدو بهيئة أخرى جديدة، غالباً ما تكون مثبّطة للعزيمة.
ومن الضروري، هنا، التذكير بأن حذائي لم يكن مهترئاً تماماً، وأن حضرتك- بالذات- قد خصصته بعبارات تمتدح جودة مادّته الأوّلية ودقّة صناعته، بل إنك رفعت، عالياً، من مقام ماركة تصنيعه، وباختصار: وعدتني، آنذاك، بحذاء قشيب.
حسنٌ. لم أستطع الانتظار حتى اليوم التالي، بل خلعتُ نعليَّ كي أجرِّب الحذاء، وأختبر وعودك. وهأنذا هنا، بقدمين موجوعتين، أتوجَّه إلى حضرتك بهذه الرسالة، بدلاً من أرسل إليك عبارات السباب القاسية التي توحي بها جهودي غير المجدية.
لم تستطع قدماي أن تدخلا في الحذاء، لأنهما، مثل أقدام الناس جميعاً، مكوّنتان من مادّة ليّنة وحسّاسة. وقد وجدت نفسي أمام حذاء حديدي!
لست أدري كيف، وبأية فنون قمت بإصلاح حذائي، لجعله غير ذي نفع! إنه هناك، في الركن، يغمزني ساخراً بمقدِّمتيه المعْوَجَّتين.
حين أخفقتْ جهودي كلّها، رحتُ أتفحَّص، بدقَّة، العملَ الذي قمت به حضرتك. ولابدَّ لي من أن أنبِّهك إلى أنني لا أتمتَّع بثقافة جيدة في مادّة الأحذية، فالشيء الوحيد الذي أعرفه هو أن هناك أحذية سبَّبت لي المعاناة، وهنالك- في المقابل- أحذية أخرى أتذكّرها بعذوبة وحنان، لأنها هكذا كانت، بنعومتها ومرونتها.
الحذاء الذي أعطيتك إيّاه لإصلاحه كان رائعاً، وقد خدمني، بوفاء، على امتداد شهور طويلة. وكانت قدماي تجدان نفسيهما فيه مثلما تجد السمكة نفسها في الماء. وأكثر من كونه حذاءً، كان يبدو أشبه بجزء من جسدي نفسه، كنوع من الغلاف الحامي الذي يمنح خطوتي رسوخاً وأماناً. لقد كان جلده، في الواقع، كأنه جلدٌ منّي، صحيٌّ ومقاوم. وكل ما هنالك أنه صار يبدي نوعاً من التعب، في نعليه، بصورة خاصّة: اهتراء عميق وواسع في النعلين جعلني أرى أن الحذاء صار يبدو غريباً عن شخصي، وأنه آخذ بالانتهاء. وحين حملته إلى حضرتك، كان جوربي على وشك الظهور منه. 
لا بدَّ من قول شيء عن الكعبين أيضاً؛ لأنني كنت أدوس بطريقة فيها شيء من الخلل، وكانت تبدو في الكعبين آثار واضحة من هذه العاهة القديمة التي لم أستطع تقويمها.
لقد أردتُ، بِروح طموحة، أن أطيل عمر حذائي. ويبدو لي أن هذا الطموح لا يستوجب اللوم، بل- على العكس- إنه علامة تواضع، وينطوي على شيء من المذلّة؛ فبدلاً من رمي حذائي والتخلُّص منه، كنت أستعدّ لاستخدامه لمرحلة ثانية، أقلّ ترفاً وبريقاً من المرحلة الأولى، أضف إلى ذلك أن عادتنا هذه، نحن- الناس المتواضعين- في تجديد أحذيتنا، هي- إن لم أكن مخطئاً- وسيلة لتأمين العيش لأشخاص آخرين مثل حضرتك.
يجب أن أقول إن الفحص الذي قمتُ به لعملك التصليحي قد تمخَّضَ عن نتائج سيّئة جدّاً، منها- على سبيل المثال- أن حضرتك لا تحبّ عملك. وإذا ما تركتَ جانباً أيَّ نوع من الاستياء، وجئتَ إلى بيتي وتأمَّلت حذائي، فسوف تجدني محقّاً تماماً. انظر إلى الخياطة: لا يمكن حتى لخيّاطة عمياء أن تخيط بكل هذا السوء، والجلد مقصوص بإهمال لا يمكن تفسيره، حوافّ النعل غير منتظمة، وفيها نتوءات خطرة، وليس لدى حضرتك، بكل تأكيد، قوالب أحذية في ورشتك، لأنه يمكن لهذه القوالب- إن وُجِدت-أن تحفظ بعض الخطوط الجمالية. والآن…
أَدخل يدك فيه. وستتلمّس مغارة مشؤومة. على القدم أن تتحوَّل إلى نوع من الزواحف كي تدخل فيه. وفجأةً، تجد مصدّاً؛ شيئاً أشبه بمِصْدم إسمنتي، قبل الوصول إلى أقصى المقدّمة. أهذا ممكن؟ قدماي- أيّها السيد الإسكافي- لهما شكل الأقدام، إنهما مثل قدميك، هذا إن كانت لك أطراف بشرية.
ولكن، كفى. لقد قلتُ لك إنك لا تحبّ مهنتك. هذا محزن جدّاً بالنسبة إليك، وخطير على زبائنك، وهم- في الحقيقة- لا يملكون نقوداً لتبذيرها.
وبالمناسبة، لست أتكلَّم بدافع المصلحة. صحيح أنني فقير، ولكنني لست وضيعاً. ولستُ أسعى، بهذه الرسالة، إلى استرداد المبلغ الذي دفعته لك مقابل عملك التخريبي. لا شيء من هذا على الإطلاق. إنني أكتب إليك- بكلّ بساطة- لأحثّك على حبّ عملك، وأنا أروي لك مأساة حذائي، كي أبثّ فيك احترام هذه المهنة التي وضعتها الحياة بين يديك، من أجل هذه المهنة التي تعلَّمتها حضرتك، ذات يوم، في شبابك…
عذراً؛ فأنت ما تزال شابّاً. ولديك- على الأقلّ- الوقت كي تعود وتبدأ من جديد، إذا كنتَ قد نسيتَ كيفية إصلاح زوج من الأحذية.
إننا بحاجة إلى حرفيّين مَهَرة، مثل مَنْ كانوا في ما مضى، لا يعملون، فقط، من أجل الحصول على نقود من الزبائن، وإنما ليضعوا موضع الممارسة قوانين العمل المباركة، هذه القوانين التي امتُهنت في حذائي، بصورة لا تغتَفَر.
أرغب في التحدُّث عن الحِرَفي في قريتي، الذي رقَّعَ حذائي الطفولي بعناية واهتمام. ولكن هذه الرسالة ليست لإعطائك أمثلة.
أريد أن أقول شيئاً واحداً فقط: إذا ما شعرتَ حضرتك، بدل أن تغضب، بأن هناك شيئاً يتولَّد من قلبك، ويصل- كتأنيب- إلى عقلك، فتعالَ إلى بيتي، وخذ حذائي، وحاول إجراء عملية أخرى له، وستعود الأمور كلّها إلى نصابها.
وأعدك- إذا ما تمكَّنتْ قدماي، عندئذ، من دخول الحذاء- بأن أكتب إليك رسالة امتنان بديعة، أقدِّمك فيها على أنك رجل مخلص في عملك، وحِرَفيٌّ نموذجي.
_____
*المصدر: الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *