يشار كمال .. روبن هود الفلاحين



علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )
رزقت عائلة صادق أفندي ونيجار هانم الكردية بطفل جديد أطلق عليه اسم (كمال صادق غوكجلى) واشتهر بـ يشار كمال عام 1923 ليزيد عدد أطفال قرية هميتى (غوكجة ادم) بقضاء عصمانيه التابعة لمحافظة أضنة طفلاُ جديداً لعب هناك ألعاب المنطقة الشعبية حتى بلغ الخامسة من العمر ورحل بعدها مع أهله إلى نواحي منطقة أضنّه بسبب الحرب العالمية الأولى، محملاً بمخزون ذهني بسيط مزج فيه الطفل جمال الطبيعة الآسر وبؤس الفلاحين ومرارهم، أولئك الفلاحين الذين لم يفارقوا الطفل طيلّة حياته، وكتب عن معاناتهم أعمالاً أدبيّة أوصلته إلى العالمية.
مات والده على يد ابنه بالتبني أمام أحد مساجد القرية وكان يشار حينئذ طفلاً في الخامسة من عمره فتشردت العائلة وتوقف يشار عن النطق لشهور من الصدمة، أما شقيقه القاتل فقد سجن 20 عاماً وقتل بعد أن أفرج عنه، وبعد موت معيل العائلة عمل يشار في الزراعة، مما زاد مخزونه الإبداعي بالمزيد من عذابات الفلاحين في في منطقة تشوكوروفا التي دارت فيها أحداث أكثر أعماله، بالإضافة إلى تعلقه بالشعر الشعبي والأساطير التي كانت الأناضول تربة خيالها الخصب.
من هناك بدأت الدينامية الإبداعية ليشار بالنمو، كان الزمان الذي بزغ فيه وعيُّه متناسقاً مع أزمات المكان وعناء السكان، فالزمان حقبة حرب وقتل والمكان بين احتلال وسقوط وهدم والسكان بين براثن الموت والجوع والاستبداد، وكانت مخالطة الفلاحين والعمال أول بواكير الصراخ في وجه عدالة العالم الغائبة لإنقاذ الناس الذين جعلوا يشار رسولهم لكل الدنيا بعد أن انغمس معهم بعناء مشترك مداره غياب اللقمة والأمن والعدل.
ومما أرسى دعائم السخط على الاستبداد والظروف الرديئة التي امتاز بها عهد يشار، قربه من المسحوقين بعد أن كبر وعمل كاتباً للعرائض والشكاوى التي يرسلها الفلاحون إلى الجهات العلية لرفع مظلمة أو التماس، ليزداد قربه من الناس بهذا العمل، وبدأ يجمع القصص القديمة والملاحم والمراثي التي تخص قوميّته الكردية وسائر المقيمين في تركيا وما حولها، وتجلّت هذه الروافد في رواياته “شجرة الرمان”، “سلمان الأعزل” و”سلطان الفيلة” التي لخص فيها صراع البقاء برموز شملت الإنسان والحيوان والواقعية والرومانسية التي لم تكن هادئةً بقدر ما كانت ذات نزق ثوري.
أُعتقل مناصر الفلاحين أول مرة عندما كان في السابعة عشر من عمره بعد أن نشر كتابه الأول المرثيّات من الفلكور عام 1943، إلا أن أول قصة نشرها يشار كانت بعنوان “حكاية قذرة” عام 1941 جاء فيها قصة فتاة تتعرض للاغتصاب، وكان قد سمعها من الفتاة التي اغتصبت وحفزته على كتابتها، ثم مجموعة قصصية بعنوان “الأصفر الساخن” عام 1952 بينما كان في أوج نضاله واعتقالاته.
كانت هذه البواكير قبل أن ينشر ملحمة الإقطاعيين والفلاحين التي وصفت الصراع الأزلي بينهم، وهي رواية “محمد النحيل” عام 1955 التي كان سهل تشوكوروفا في جنوب شرق تركيا وطنها ومحور أحداثها، فكان بطل الرواية شاباً قوياً ينتقم للفلاحين على طريقة الصعاليك ويأخذ حقوق الضعيف من القوي، بتجسيد ذكي للريف وحياة أهله التي ألِفَّها يشار وعاشها بأدق التفاصل، ورشحته هذه الراوية لجائزة نوبل للآداب عام 1973، كما ترجمت إلى 40 لغة.
واصل ياشار الذي لقبّه أحد النقاد بماركيز الشرق، مسيرة نزقه تزامناً مع نجاحه في الساحة الأدبية واعتقالاته، فهو مناصر لحزب العمال الكردي الذي دفع الكثير من أجله حتى بعد حله عام 1971 وعاد عليه بالعديد من الدعوات القضائية والسجن حتى آخر حياته، وهو يكتب المقالات التي يؤيد فيها الحزب ويستنكر قمع الدولة التركية له، ومن أهم النجاحات التي حصدها يشار، كان فوزه بجائزة أفضل كتاب أجنبي صدر في باريس عام 1978 والجائزة العالمية لمؤسسة سينودل دوكا عام 1982، واستمر بطل الأدب المحلمي بالنشيد ضد المجازر ودعم المقاومة، فثمة تآخٍ واضح بين سلوكه الثوري ونتاجه الأدبي الذي أطرّه بنفس طويل على الكتابة ورؤية ثورية صرفة، وقد شبهه العديد من النقاد بأنه مُخلص للمقاومة في أدبه إخلاص مكسيم غوركي.
واستمر يشار ثائراً في أعماله المتقدمة، رغم شهرته التي ذاعت وتكريم العالم له، دون أن يرتاح ولو قليلاً من ملاحقات السلطة في تركيا، فهو مسكون بقصص وأساطير التراث الشعبي التي كان يحفظ منها 100 قصة وهو طفل صغير كما قال في أحد حواراته مع الصحيفة الفرنسية “لاغازين ليتيرير” ووصف فيه أصل ونبع نزقه وثورته وجماليات قريته، فكان خاله شاعراً من الصعاليك وابن فلاح لم يسلم هو الآخر من ظلم الإقطاع الذي انتقم له ابنه لاحقاً، فأن يكون الكاتب تسعينياً ويكتب المقالة المناهضة للسلطة يعني أنه لم يتغير عن اليافع الذي سجن عشرات المرات وخلّد سير الكادحين في تركته الأدبية المهولة.
نال يشار الكثير من الجوائز المحلية والعالمية، بعد أن رفع من شأن الأدب التركي، وبعد عمر طويل من الكتابة والنضال والثبّات، وأهم ما ميّز يشار، أنه مات ثابتاً على مواقفه وبسبب مشكلات في الجهاز التنفسي والقلب، مطلع العام الجاري عن 90 سنة.
_______
*شاعر ومترجم من الأردن 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *