د. عمران القيسي
واحد من أندر فناني بداية القرن العشرين، بل هو الحقيقة الأنصع لحالة الانسحاق الإنساني، لأنه شكل ميزة التنبوء بالمصير. ورسمه كنهاية منطقية لكائن آمن بأنه جاء إلى الحياة مصادفة، وعليه أن يغادر هذه الدنيا بسرعة فائقة لأن الفترة المحصورة ما بين ولادته عام 1890 ووفاته عام 1918، هي مجرد إجازة حياتية سريعة وقصيرة.
كتب عن هذا الفنان المذهل أكثر من مؤلف، وأعماله الفنية تهافتت عليها المتاحف، لكن كل ذلك لا يعني شيئاً حيال كائن كان يرى في الجسد الإنساني مجرد كفن مؤقت، وأن لا شيء يستحق إذا لم يكن الخلود الإنساني مكرساً للأعمال الكبرى فحسب.
والغريب أن هذا الفنان الذي عاصر «غوستاف كلمت» كان من أكثر الفنانين رسماً لذواتهم، إنه مولع بأن يدون بالغواش وبالألوان المائية من درجة «الأكواريل» تحولاته اليومية. لذلك كان يقول لأصدقائه، بأنه يشبه المحكوم بالإعدام الذي يقوده الجلاد إلى غرفة الإعدام. وهو ينادي بصوته المرتفع: افتحوا الطريق، فهذا رجل يسير بقامته إلى موته.. ولكن «إيغون شيلي» لم يكن يلعب لعبة الرعب المميتة، بل لعبة الجسد المتباهي بتهالكه على ذاته. إنه ليس جسداً للتباهي، بل هو الإشارة إلى ما يعتري الكائن الإنساني من انطواء على الذات.
هل كان هذا الرسام النمساوي الأصل سجين حالته المتشائمة؟ أم هو نسيج وحدانيته الذاتية التي تفجرت من الداخل باتجاه الداخل؟.
لقد رسم شيلي عشرات بل مئات الرسومات المتشنجة والتي خاطب عبرها أبناء جيله الذين يعيشون زمن التحول من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. فاضحاً أسرار الطبقة (الوقورة) أحياناً، وهاتكاً أسرار النسوة (المتبرجزات) صانعاً تلك المعادلة الخطرة بين فقر الجسد، وبذخ الأجساد المترهلة بالزيف. ولهذا انتمى بكامل إرادته، وبطواعية لذوي الأجساد الضامرة. لأولئك الذين يفكرون أكثر مما يأكلون، ويبدعون أكثر مما يثرثرون.
لم يعش سوى 28 عاماً. وما بين 1890 حيث ولد في 12 يناير/كانون ثاني، وتوفي في السادس من إبريل/نيسان عام 1918 قدم للعالم أكثر من 83 لوحة عن نفسه. مقابل عدد كبير من الرسومات المثيرة عن النسوة الفقيرات اللواتي دون حياتهن البائسة، رافضاً أن يرسم سيدات الصالونات، إنه مسار أسسه هذا الفنان المأزوم، وسار عليه عدد كبير من الفنانين فيما بعد، ربما أبرزهم اليوم، الفنان البريطاني «لوسيان فرويد»، فلا غرابة أن نرى بأن فناناً كبيراً بمستوى «غوستاف كلمت» يتعامل مع أعمال «إيغون شيلي» بكل هذه الهيبة والاحترام.
رصد التحولات
«إيغون شيلي» 1890-1918. لا يمكن أن نتعرف إليه بشكل معمق ما لم نطالع بصرياً الأعمال التي رسم بها ذاته، لكي نكتشف الأبعاد الأساسية لكل التحولات التي سعى إلى تدوينها عبر أسلوبه التعبيري القاسي.
عام 1910 أي في سن العشرين مزج ما بين مادتي «الغواش و«الأكواريل» وأنتج رسمة بحجم 48 × 31 سنتيمتراً. وهي تؤشر بشكل واضح لحالة التشنج في اليدين. سيما وقد بدأ وهو في سن العشرين يعاني الألم في المفاصل، وأصواتاً غريبة في الرأس.
وفي عام 1911 يرسم بالأكواريل لوحة ارتفاعها 55 سنتيمتراً وعرضها 36 سنتيمتراً يكشف فيها عن بطنه وقد ارتسم الذهول على وجهه، معلناً أنه ليس من ذوي الكروش المتخمين، لأنه معجب بالجياع وحدهم.
عام 1914 يرسم بألوان ثلاثية. غواش وأكواريلو فيزان (طبشور ملون) لوحته المذهلة عن الفنان يحاول أن يرتدي القميص. (الصورة بحجم 47×31 سنتيمتراً.
ويكشف عن صورة بدأها عام 1910 وأكملها عام 1914. وهذه الصورة هي أول رسم ذاتي يكشف فيه عن جسده عارياً. وقد رسم هذه الرسمة بمادة الغواش.
لكن اللوحة التي أثارت أكبر جدل بين مجايليه هي التي نفذها أواخر عام 1914. وفيها تركيز على عصبية حركة اليدين، عندما يحاول أن يرتدي بنطاله. وقد رأى الفنانون من جماعة مدرسة جنيف آنذاك بأن هذه اللوحة هي إعلان عن الحرية المطلقة للتعبيرية الجديدة.
أما أجمل إنجاز قدمه هذا الفنان وهو ابن 25 عاماً فقط، فهو صورته المزدوجة. والتي أسماها الحضور المزدوج، وهي بحجم 50×33 سنتيمتراً منفذة بالغواش والأكواريل. وهي ضمن المجموعات الخاصة بالمتاحف.
لكن الإنجاز التعبيري الأشد قسوة جاء أواخر عام 1914 عندما رسم نفسه مأزوماً يصارع ذلك الجسد المتعب الذي يضغط على كل خلية من خلاياه.
فنان رسم ذاته وكرس أزمة جسده كحقيقة حياتية. لكنه رغم عمره القصير قدم درساً لكل الفنانين التعبيريين الذين كان الموضوع الخارجي يشكل مساحة حضورهم.
________
*الخليج الثقافي