هوفيك حبشيان
المخرج الأميركي القدير تود هاينز حلّ ضيفاً بعد ظهر الخميس الفائت، على عيد روما السينمائي (16-24 الجاري). كان الاحتفاء به مزدوجاً: تمثل أولاً في عرض جديده “كارول”، الفيلم البديع الذي شارك به في مهرجان كانّ الأخير (بطولة كايت بلانشيت وروني مارا) وعاد منه للأسف بلا جائزة؛ وثانياً في افساح المجال له للقاء الجمهور والحديث عن سيرة سينمائية انطلقت قبل نحو 30 عاماً وانطوت على ستة أفلام تُعتبر علامات مضيئة في تاريخ السينما الأميركية المستقلة. لم يكن غريباً أن يبدأ صاحب “لستُ هناك” كلامه من استقلاليته التي تجعله يعمل على هامش الصناعة الهوليوودية. بهدوء وود وابتسامة لم تفارق وجهه طوال الجلسة، قال: “لستُ مستقلاً فقط لأنني امتنعتُ عن العمل مع الاستوديوات الكبيرة. الاستقلالية حساسية فنية أكثر منها انتماء. عليَّ القبول بفكرة ان أفلامي مختلفة في الشكل، وتكاد تلامس التجريب. أدين بهذا الاختلاف لعنصرين: الممثلون الذين يأتون اليّ بشرعية اكتسبوها في شبّاك التذاكر، والمنتجة التي رافقتني طوال هذه السنوات، وهي دائماً حاربت من أجلي”.
لم يكن تناول أفلام هاينز ممكناً، من “بعيداً من الجنة” الى “فلفت غولدماين”، من دون الإشارة الى الينبوع الذي ارتوى منه. في جملة التأثيرات التي اشتغل في إطارها، يحتل المخرج الأميركي دوغلاس سرك الصدارة. اكتشفه هاينز في الثمانينات عندما كان لا يزال طالباً، ووقع في غرامه. في نظره أن سرك لجأ الى لغة مصطنعة (الميلودراما)، لقول حقائق اجتماعية. طريقته كانت جد راديكالية نسوية قياساً بالفترة الزمنية التي اشتغل فيها. يعزو هاينز تقدير سرك في أميركا والعالم الى ثلاثة أطراف: مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية، المنظّرة السينمائية الأميركية لورا مولفي، والمخرج الألماني راينر فرنر فاسبيندر.
بعد عرض مقاطع من فيلمه “فلفت غولدماين”، التي شاهدناه يتفرج عليها بفضول يشي بأنه لم يرها منذ زمن طويل، قال: “وددتُ ان أعود مع هذا الفيلم الى حقبة فريدة جداً من تاريخ ثقافة الـ”بوب” والـ”غلام روك” في أميركا. هذه المساحة الفنية كانت مكوّنة من لغة ممسرحة واستعراض، وأردتُ من خلالها ان أستكشف مفهوم الهوية. أخذتُ ما كان يفعله كثرٌ من الموسيقيين، وانطلاقاً من هذه المعطيات نسجتُ حكاية خيالية. رغبتُ في عالم موازٍ. انجازي الأهم في هذا الفيلم هو انني ظللتُ قريباً جداً من الفنانين”.
عاد هاينز الى علاقته المهنية مع جوليان مور التي أدارها في فيلمين، “آمن” و”بعيداً من الجنة”. أوضح انه لم يكن يعرفها آنذاك، يوم باشر تصوير فيلمه الثاني، فمور كانت قد بدأت لتوّها بالتمثيل، لكن بمجرد أنها قرأت السيناريو حتى وافقت عليه وعرفت بالضبط من أين تمسك بالدور. جسّدت الشخصية خير تجسيد، ومنذ ذلك اليوم شرعا في علاقة مثمرة، علماً انه لم يكتب دور “بعيداً من الجنة” وهي في باله.
في سياق حديثه عن رائعته السينمائية “لستُ هناك”، حيث كايت بلانشيت تجسّد واحدة من النسخ الستّ التي نراها لبوب ديلان، تذكّر أن ديلان صرّح في مجلة “رولينغ ستونز” بعد سنة ونصف السنة من عرض الفيلم، بأنه معجب به. ان المعالجة غير التقليدية التي قدّمها هاينز لحياة ديلان كانت الشرط الوحيد لكي يقبل المغني الأسطوري بإنتاج فيلم عن حياته. سأله المحاور طمعاً بالمزيد من التوضيح على لسان مخرج لطالما كانت الموسيقى هاجسه: “مَن هو بوب ديلان؟”، فأجاب ان الردّ على هذا السؤال مستحيل، ولهذا السبب أنجز الفيلم: “ديلان صاغ ملامح الستينات، والستينات صاغت ملامح ديلان. رفض ان يُعلَّب ونبذ الهوية. طال الشهرة والنجاح وعاشهما كشخص كامل، ولكن وجب عليه ان يتراجع وكان في كل مرة يقتل الديلان الذي كانه. في الفيلم، تطل كايت بلانشيت في دور ديلان لتقتل كريستيان بايل الذي كان ديلان قبلها، لكن الأخير كان يجسّد الـ”فولك” بطابعها الارثوذكسي. آنذاك، كان تحت تأثير الأنفيتامين، ضعيف البنية، ويقفز على المسرح. كايت كانت خائفة من تجسيد الدور، من جانبي كنت متأكداً أنها ستبرع”.
عندما وصل الحديث الى “كارول”، كشف هاينز للمرة الاولى أنه استوحى قليلاً من شخصية مونيكا فيتي في “الكسوف” لميكال أنجلو أنطونيوني من أجل بناء الشخصية التي تضطلع بها بلانشيت في هذا الفيلم الذي قد يدخل سباق الـ”أوسكار” السنة المقبلة: “هناك شيء في اسلوب ثياب مونيكا يذكّرني بكايت. هذا الفيلم، ليس هناك مخرج لا يقع تحت سحر لغته البصرية ودقته وقدرته الهائلة على التقاط تفاصيل المجتمع الذي يصوّره. ثم هناك أيضاً النحو الذي يُستعمل به الحقل السينمائي”.
فيلم آخر استعار منه هاينز من أجل كتابة سيناريو “كارول”: “لقاء قصير” لديفيد لين: “عندما نشاهد هذا الفيلم، ولا سيما مشهد القطار، نكتشف شخصيتين، وسرعان ما يشغلنا سؤال: “حكاية مَن سيكون هذا الفيلم؟”. وددتُ اعتماد تقنية سردية مشابهة في “كارول”، بحيث لن نعرف أبداً هل ستتبع حكاية كايت بلانشيت أم روني مارا”.
في طبيعة الحال، كان هناك مرور اجباري عبر سينما راينر فرنر فاسبيندر. بعد عرض مقطع من “كل الآخرين اسمهم علي”، أفاض هاينز في الكلام عمّن يعتبره أحد مصادر الوحي لديه: “أنجز دوغلاس سرك عام 1955 “كل ما تسمح به السماء”. كان نموذجاً راقياً للميلودراما وكان فيلمه المفضل. انها حكاية امرأة تُغرم برجل أسود. الحكاية أحدثت زوبعة اجتماعية في هاتيك الأيام. فاسبيندر شاهد الفيلم ووقع في غرامه، حدّ انه غيّر مفهومه للسينما. فالتقط الحكاية ونقلها الى ألمانيا لتصبح حكاية أرملة تنظّف المراحيض، وذات يوم تقع في حبّ شاب مغربي يصغرها سناً. وضع فاسبيندر الحكاية في سياق طبقي. انها أبسط قصة يُمكن العثور عليها، وفاسبيندر كان يحبّ السينما البسيطة من ايمانه بأنها الأقوى. تكفي رؤية الفيلم كي نلحظ كمية نظرات الادانة التي تحظى بها عاملة المراحيض. فاسبيندر كان سينمائياً مسيّساً، ينتمي الى جيل ما بعد الماركسيين. هذا النوع من السينما حيث تتبلور شخصيات تعيش في محيط قاسٍ، قاد خطواتي وكان له التأثير الأقوى في مسيرتي، منذ أول فيلم أنجزته وصولاً إلى “كارول”، فيلمي الأخير”.
من مشاريع هاينز القريبة: فيلم عن عازفة الجاز بيغي لي (1920 – 2002)، سيكون من بطولة ريز ويثرثبون. “هذه مناسبة للعودة مجدداً الى عالم الموسيقى في أميركا”. ختاماً، سأله أحدهم عن الممثل الراحل هيث ليدجر الذي أداره في “لستُ هناك”، فعلّق انه يشعر بالسعادة لأنه عمل معه ويشتاق اليه دائماً، الا انه في كلّ مرة ينظر فيها الى وجه ابنته الصغيرة، يشعر بأن والدها لا يزال حياً من خلالها.
———-
النهار