رؤيا سعد*
خاص ( ثقافات )
” إن من يهب الأشياء جمالها شيءٌ خفيٌ لا تراه العيون ”
كان أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900-1944) طيار مشهور ورورائي حاول من خلال رواياته أن يعثر على معاني السلوكيات وتحليل القيم الأخلاقية في أوساط المجتمع المتحول بسبب التقنية الحديثة.
“عالم البشر، لم ير به إلا كبارا، لا يدركون عبث كل ما يصنعون، وحدهم الأطفال بحبهم لدمية وحزنهم لكسرها يعيشون حقيقة المحبة” . من رواية الأمير الصغير.
من حيث الشخصية فقد كان انطوان يتمتع بشخصية مميزة فهو رجل رقيق شفاف حالم ذو عقليه فنتازية خيالية يعيش أوقاته مع أسرار الرياح والرمال والنجوم، وكان واحدا من المغامرين الكبار والروائيين المدهشين وهو اليوم الأكثر شهرة على الإطلاق من خلال اشتهاره بروايته الأمير الصغير ذات البعد الإنساني والفلسفي الكبير، وهي تحكي لقاء بين طيار قد تقطعت به السبل وأمير صغير يعيش في كويكب.
ولأنطوان قصص وروايات أخرى لاقت رواجاً كبيراً وجميعها تحوم حول تجاربه الشخصية كونه من الرواد في الطيران الفرنسي في عصره.
وعلى ما يبدو أنه كان يعاني من أزمات نفسية بسبب مهنته ووقوعه أسيراً وفق ما نستشفه من رسالة كتبها إلى أمه التي كان دائماً يتداول الرسائل معها؛ كونه لا يستطيع الاستغناء عنها بعلاقته الوثيقة التي تجمعهما وسبق ونشرت مجموعة من رسائله في كتاب جميل بعنوان رسالة لأمي (دار غليمار). فيقول :-
“لقد عانيت الانهزام والانكسار والوحدة القسرية في الأسر ..”.
لكن رسائل دو سان اكزوبري التي بعثها لحبيبته “رينيت” التي كان يحبها وافتتن بها بعد أن تعرف عليها في الجيش ووقع في غرامها وهو في مهمة بين مدينتي الجزائر ووهران ، تخبرنا من خلالها بأنه كان متلهفا للقاء تلك الحبيبة كونه كان يحرص على أناقة الرسائل المزينة بختمه المميز برسمة الأمير الصغير والذي كان يرسم تخطيطاته بيده، آملا أن تنال إعجابها لكنه كان يريد بذلك أن يغطي على شخصيته المرهفة الخجولة التي تمنعه من التعبير عما يخالجه من عاطفة نحو الفتاة.
رغم جمالية فحوى الرسائل، إلا أنها تتسم بمسحة حزن حيث أحس بأن الفتاة لا تشاطره العاطفة بنفس الدفق ” حب من طرف واحد ” وسرعان ما تنبه لذلك فكتب لها ” في 22/يونيو / 1944:
“
لقد اتخذت قراري فمنذ الآن لن يكون هناك أمير صغير يناشدك ولا حتى بعد غد فأميرك الصغير قد مات …. وبعدها بأسابيع اختفى.
بعد هذه الرسالة، وتحديدا في يوليو من سنة 1944 تاه إلى الأبد ولم يعرف له مكان، وكذلك مكان طائرته المجهولة، ومن المرجح أنه انتحر لتفاقم الأفكار والتساؤلات الوجودية في رأسه، وقد رجح أيضاً أنه لاقى حتفه في أعقاب إحدى المهمات الاستطلاعية عام 1944م، ولم يتم العثور على جثمانه إلا مؤخرا 1988م وفق بعض الروايات غير المؤكدة”.
من رسائله لحبيبيته رنيت:
رفيقتي لقد ضعت في زحمة أفكاري، وآن لي أن أجدني مهما كلفني الأمر. علي أن أسعى لوجودي .
عزيزتي رنيت أنا لا أفهم شيئاً في هذه الحياة، عدت الآن ولكنني لم أجد منك شيئا .. لا تتعبي نفسك في الكتابة إلي فأنا لا أستحق منك أي عناء، سأقطع الأمل منك ولن أخاطبك بعد الآن ولن أرسل لك أي عنوان. بت مضحكا للغاية فلا معنى أن أستجدي منك المحبة، أنا كنت بحاجتك وأنت لست بحاجتي .. لاتبتأسي فهذا أمر طبيعي. الليل يستمر ببطء، وببطء أنام، لكنني أخاف البوح بأسراري ويقلقني نسياني لضغائني وهفواتي. هذا أمر خطير يا إلهي، فهل أنا مفتون بضعفي؟.
__________
*تشكيلية ومترجمة عراقية.