في ذكرى رحيل طه حسين صاحب “في الشعر الجاهلي”


محمد فايز جاد


لم يثر كاتب من الضجة، بقدر ما أثار د.طه حسين، ولم يختلف الناس نخبة وعامة بقدر ما اختلفوا على طه حسين، الذي ما أن يُذكر اسمه حتى الآن في جلسة حتى تتضارب الآراء بين مؤيد ومعارض، بين مؤيد يراه نقلة في تاريخ الأدب والفكر، وبين معارض يراه، في أحسن الأحوال، مبتدعا خارجا على المألوف، عن خطأ، وفي أغلب الأحوال عن حاجة في نفسه. 

ربما لم يكن العميد، الذي توفي في 28 من أكتوبر من عام 1973، هو أول من ألقى حجرا في المياه الراكدة، فإن لدينا محاولات لأدباء ومفكرين حاولوا أن يسيروا سيرته، لكن حجر العميد ليس كحجر غيره. 
ولعل أبرز حجر من أحجار طه حسين كان كتاب “في الشعر الجاهلي”، الذي نشر عام 1926، والذي لم يكتف بإثارة تلك الموجات الضعيفة المتلاحقة، إنما أحدث فيضانا خطف الأبصار، وخلع القلوب. 
عندما نشر الكتاب تعرض لهجمة عنيفة من رجال الدين وعلى رأسهم شيخ الأزهر، الذي قدم بدوره بلاغا للنائب العمومي محمد نور يطالبه فيه “باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة” ضد كتاب حسين؛ لأنه، بحسب رأيه، يطعن في الإسلام ويكذب القرآن، والنبي عليه السلام. 
وبالرغم من أن للقضية أبعادا سياسية، تتمثل في تصيد حزب الوفد الأخطاء للعميد، الذي كان أكثر ميلا لغريمهم التقليدي، حزب الأحرار الدستوريين، ولا عجب إذن أن يكون أحد أعضاء الوفد من ضمن من قدموا بلاغات لنائب العموم، أقول بالرغم من ذلك فإن القضية تشتمل على أبعاد فكرية لعلها أكثر بعدا، وأعظم تشعبا، وأشد تعقيدا مما رآها البعض، من المؤيدين والمعارضين. 
ربما يبدو من العجيب أن تندلع هذه الثورة العارمة بسبب كتاب يتناول بالنقد الشعر الجاهلي، الذي هو ليس مقدسا بأية حال من الأحوال، وأن تقوم حرب ضروس في سبيل نصوص شعرية لن يضيرنا في شيء ما إذا كانت صحيحة أو غير ذلك، لكن الحق أن القضية لو كانت كذلك لهانت، ولكن لب المسألة، وسبب المعركة كان في منهج العميد في كتابه، لا في الرأي الذي استخلصه وانتهى إليه. 
يقول العميد في كتابه: “أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدث ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل”.
لم تكن المشكلة إذن في ما انتهى إليه العميد من أن الشعر الجاهلي أغلبه منتحل، لكن كانت في الطريقة التي أثبت بها ذلك، والتي يدعو العميد لانتهاجها في كل ما نتعرض له من أخبار وأقوال القدماء، وهي طريقة “الشك”. 
فالعميد لا يرتاح، ولا يريد لنا أن نرتاح، إلى كل ما يبلغنا عن القدماء من أخبار وأقوال وكتابات، لا نتناولها من النقد إلا باليسير كما قال، إنما يريد أن ننظر لكل هذه الكتابات نظرة متشككة، متفحصة، تخبر الظروف المختلفة لكتابتها، مراعية ظروف العصر ومتغيراته الاجتماعية والدينية والسياسية. 
كانت هذه إذن هي المنطقة الشائكة التي اخترقها د.طه حسين، والتي كان محرما على الجميع، ليس اجتيازها وإنما مجرد الاقتراب منها؛ ذلك أن هذا المنهج، الشك، يمتد بالضرورة إلى ما قدمه لنا القدماء من كتب في السيرة والتاريخ، بل وفي الحديث. 
المنهج الذي اتخذه طه حسين لقراءة التراث كان هو بداية الطريق، بل الاتجاه الوحيد، لما يسمى الآن بتجديد الخطاب الديني؛ ذلك أن تجديد الخطاب الديني لا يتطلب قراءة جديدة للتراث بمعنى محاولة تأويل النصوص تأويلا جديدا يتسق مع العصر؛ إذ إن ذلك يفتح الباب لتضارب التأويلات، التي لا يمتلك أي منها دليلا قاطعا على صحته، إنما يفترض هذا التجديد أن تنظر لهذه النصوص نظرة جديدة، قائمة على الشك لا على القبول والاطمئنان الأعمى، ما قد يتيح الفرصة للتخلص من كل ما يتضارب مع العقل الحديث، وروح اليوم. 
كان هذا هو ما أقض مضاجع المهاجمين للعميد، وجعله مرمى لسهامهم المؤيدة بالسلطة والنفوذ، وليس أقوى من السلطة الدينية، مدعومة بنفوذ القانون. 
تبقى إذن التهمة التي كانت تغلق الباب في وجه كل من يحاول أن يدافع عن العميد، وهي تهمة الهجوم على القرآن وتكذيبه، وهي تهمة، لو أردنا الإنصاف، مردودة دون حاجة إلى جهد، يراها كل ذي عينين في عنوان أحد فصول الكتاب نفسه، واضحة حتى في عنوانه “مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي”. 
وفي هذا الكتاب يحاول الأستاذ أن يرد على الحجة التي تذهب إلى أن الشعر الجاهلي نجح في تصوير الحياة الجاهلية، مطالبا باللجوء إلى القرآن الكريم كمرآة لهذا العصر، بصفته أكثر صدقا من هذه الكتابات البشرية، التي لا دليل لدينا على أنها حقا منسوبة لأصحابها. 
كان إذن العميد يضع القرآن في مرتبة أعلى من تلك الكتابات البشرية، كلها، باحثا فيه عن ضالته، لكن ماذا عن قول “القرآن نص أدبي” الذي يتخذ حجة ضد العميد، لا تكاد تفارقه؟ 
ولعل هذا هو المنهج الذي اتخذه د.نصر حامد أبو زيد في قراءته للقرآن، والذي لاقى في سبيله أشد ألوان التنكيل، التي قد تكون أقسى مما تعرض له د.طه حسين. 
——-
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *