عماد المي
شهدت تونس في الفترة الممتدة من 16 إلى 24 أكتوبر 2015 تنظيم الدورة 17 من أيام قرطاج المسرحية، وتندرج هذه التظاهرة التي يعود تاريخها إلى سنة 1983 تاريخ أول دورة لهذا الملتقى الفني الذي يحتفي بأب الفنون. وتعدّ هذه التظاهرة مهرجانا دوليا للمسرح حيث تشارك فيه إلى جانب العروض المسرحية التونسية مجموعة من العروض العربية والأفريقية وبعض العروض من دول أجنبية.
تميزت هذه الدورة السابعة عشرة، التي اختتمت منذ أيام، بإضافات وهي تعدّ جيّدة ويجب العمل عليها وتطويرها بشكل معمق، ونذكر من بينها الدفع بالمسرح نحو اللامركزية لتمكين أقصى عدد ممكن من التونسيين من ممارسة حقهم في الثقافة، فاتجهت إدارة المهرجان إلى إيجاد شريكين مميزين وهما وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي اللتان تدخلتا بكل إمكانياتهما لتمكين التلاميذ والطلبة من مشاهدة العروض المسرحية، وإن هذه البادرة تعدّ جيّدة، ويجب تقييمها ونقدها بجدية حتى تتطور في المستقبل وتكون ذات جدوى، لكي لا تصبح عادة شكلية فقط.
المصلحة الضيقة
هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية جعلتنا نتساءل لماذا لم يكن هنالك تشخيص فعلي خلال الدورات الـ16 السابقة والوقوف على ما هو جيّد منها للعمل عليه؟ ولماذا هذه القطيعة وانعدام الاستمرارية وعدم البناء والتطوير لما هو جيّد في الدورات السابقة؟ ثم متى يتخلى المديرون المتداولون على إدارة الدورات الـ17 المتتالية على أنانيتهم الضيقة والسلبية مستوعبين أن التنظيم عمل مشترك بعيدا عن الارتجال والانفعال الذاتي الذي يؤدي إلى هدم السابق؟
هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية جعلتنا نتساءل لماذا لم يكن هنالك تشخيص فعلي للدورات الـ16 السابقة
نرى أنه لا بد من العمل باستمرارية حتى يتطور المهرجان. فلماذا مثلا لم تتم إعادة النظر في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية والتي كانت دافعا ورهانا بين الفرق المتنافسة وكانت حافزا حتى للدول المشاركة في المسابقة لأن ترسل أجود أعمالها، لأن التنافس يتحول من تنافس بين مسرحيين إلى تنافس بين دول من أجل الفن المسرحي؟ لماذا أيضا لم يتم التفكير في دعوة مسرحيين كبار على غرار بيتر بروك أو إريان منوشكين حتى يتسنى للمسرحيين المشاركين الاستفادة؟
ولماذا لم تقع برمجة تربصات لمسرحيين كبار ولهم ريادة ومكانة عالمية في المسرح لتمكين المسرحيين من تطوير آليات عملهم؟ ولماذا غابت النشرية اليومية للمهرجان والتي كانت مساحة للقراءات التحليلية والنقدية للعروض لتوقظ أصحاب العروض وتنبهم إلى بعض الخفايا التي يجهلونها كي يطوروا أعمالهم بأنفسهم؟
مثل هذه التظاهرات لن تكون ذات جدوى إن لم تنطلق من سؤال وإشكالية جوهرية يقع العمل عليها طيلة المهرجان، ثم ومع نهاية المهرجان يقع التقييم من خلال التحقق إلى أي حد بلغ تذليل الإشكاليات المطروحة. وفي ما يلي نعرض ما رصدناه من آراء لبعض المسرحيين التونسيين في هذه الدورة الـ17 لأيام قرطاج المسرحية.
الفعل قبل الشعارات
يقول أسامة الجامعي، وهو باحث في مجال المسرح والعلوم الثقافية ومن الباحثين في مفهوم الإيتنوسينولوجيا ومدير إنتاج بالمسرح الوطني التونسي، عن رأيه في الدورة الـ17 لأيام قرطاج المسرحية:
أولا سأتحدث بصفتي مدير إنتاج بالمسرح الوطني عن التنظيم الذي يشكو من عدة مشاكل، فمثلا هنالك مجموعة من العروض الأجنبية لم تصل ديكوراتها إلى حدود هذه الساعة، ونحن في يوم اختتام الدورة. أضف إلى ذلك نحن في المسرح الوطني وجدنا أنفسنا مضطرين لصناعة وتوفير الديكورات وبعض المستلزمات للعروض المبرمجة بالمهرجان في وقت وجيز ومدّة قصيرة جدا، حيث تمّ إعلامنا بتوفير وصناعة الديكورات لكل الأعمال الأجنبية بورشات المسرح الوطني قبل أسبوع من انطلاق المهرجان، ويعدّ هذا التوقيت متأخرا جدا، وإذا ما حاولنا التساؤل والبحث عن سبب هذا التأخر فسنجد أن الكل يلقي باللوم على الكل، ولا نجد إجابة واضحة ومسؤولة، لقد وجدنا أنفسنا أمام تحدّ لتوفير الديكورات في وقت قصير وذلك سعيا منا إلى إنجاح التظاهرة لأنها تهمّ تونس كبلد وتهمّ المسرح التونسي عموما، بقطع النظر عن الأسماء المعنية بالتنظيم، وهي تعكس صورة المسرح التونسي الذي عوّدنا على الريادة عربيا وأفريقيا. أتمنى أن يكون هنالك تقييم ونقد للأخطاء والنقائص وتجاوزها في الدورة القادمة والعمل باستمرارية وتطوير كل ما هو جيّد وكان مميزا.
صبغة مناسباتية
التقينا كذلك بالمخرج المسرحي صالح بن يوسف الفالح، وهو مخرج مسرحي متحصل على شهادة الدراسات المسرحية من المعهد العالي للفن المسرحي بتونس اختصاص إبداع وإنتاج مسرحي له عدة أعمال مسرحية قام بإخراجها من بينها “ألبستك الزينة” سنة 2008 و”رسالة إلى أمي” 2011 و”الماكرون” 2013 والتي قدّمت يوم 16 أكتوبر الجاري خلال البرمجة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية. يقول المخرج: هذه التظاهرة تعد بالنسبة إليّ عادية أو بالأحرى أقل من المتواضعة، وذلك لضعف التنظيم والاختيار العشوائي المفتقر لمقاييس حرفية واضحة للعروض المبرمجة خلال هذه الدورة، حيث كانت أغلب العروض مندرجة تحت عنوان التبادل الثقافي بين الدول والذي لا يتيح الفرصة لمشاركة العروض الجيدة والرائدة لأنها مكلفة.
ويضيف: ألاحظ غياب النفس الأفريقي عن هذه الدورة والاكتفاء بمجموعة ضئيلة من العروض التي تمثل بعض الدول الأفريقية، وهذا ما يعطل الانفتاح على الشكل المسرحي الأفريقي في العمق. كما يبدو واضحا أن هنالك قطيعة مع النقاط الإيجابية في الدورات السابقة، وغيابا لعروض معلمين كبار في المسرح العالمي على غرار بيتر بروك ومنوشكين، وبالتالي خرج المهرجان من دائرة العالمية واكتفى بعروض أغلبها عربية تميزت بالسطحية وانعدام الحرفية وهو ما يعكس وضعية المسرح كمهنة غير متجذرة في الواقع العربي وتعدّ ظرفية، كما يعكس السياسات العربية القائمة على جعل الفنون بشكل عام ذات صبغة مناسباتية عابرة، لا تراهن عليها في تطوير مجتمعاتها.
رهان التنافس
يتحدث إلينا عن هذه الدورة حسام الغريبي، وهو موضب عام بمركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان – تونس، وحاصل على شهادة في الدراسات المسرحية من المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، وممثل ضمن عرض مسرحية الصابرات التي شاركت في أيام قرطاج المسرحية. يقول الغريبي: انفتاح أيام قرطاج المسرحية على الجهات وتقديم عروض في داخل الجمهورية هي بادرة مازالت بكرا وتحتاج إلى مراجعة حقيقية لضمان نجاحها وتحقيق أهدافها في القطع مع المركزية الثقافية.
ويضيف: إن البرود الذي لمسناه عند المسرحيين عائد إلى غياب لجنة تحكيم تقيّم وتقوّم العروض المسرحية وهو قطع مع روح المنافسة، فتغييب المسابقة والجوائز كان في دورات سابقة قرارا فرديا اتخذه آنذاك مدير الدورة محمد إدريس مدعيا أن التظاهرة ليست سباقا للخيول. أنا أرى أن هذا القرار خاطئ وحرم المسرحيين من رهان التنافس لأن روح المنافسة هي التي تصنع الفرجة. وكان لا بدّ لإدارة المهرجان من إحياء المنافسة من جديد، وما أعيبه أيضا هو الاستراتيجية الإعلامية والدعائية للمهرجان، والتي كانت هزيلة جدا دون جدوى.
كفانا من المحاباة
كما التقينا بفاتن بالحاج عمر، وهي متحصلة على شهادة الأستاذية في الدراسات المسرحية وممثلة مشاركة في أيام قرطاج المسرحية من خلال حضورها كممثلة في عرض كليلة ودمنة وهو عمل من إخراج محمد المختار الوزير. تقول بالحاج عمر مبدية رأيها في هذه الدورة من أيام قرطاج: لقد شاهدت مجموعة من العروض خلال هذه التظاهرة، وكانت أغلبها عروضا عادية وبسيطة، تفتقر إلى الجدية والبحث الفني والجمالي. أعتبر أن جلّ العروض غير ثابتة ومهتزة وكأنها مازالت تبحث عن جذورها وأصولها، وكأننا أمام مسرحيات فاقدة للهوية. ولكن ما شدّ انتباهي وجعلني أتساءل فعلا هو أن إدارة أيام قرطاج المسرحية فاجأتنا في سهرة الاختتام بوجود لجنة لمبرمجي عروض أجانب اختاروا بعض العروض لتسوّق خارج تونس، وتشارك في مهرجانات عالمية، فكيف تمّ ذلك؟ وهل شاهدت اللجنة كل العروض؟ وما هي مقاييس الاختيار أم أن إدارة المهرجان هي التي زكت عروضا محددة دون سواها؟ لا بد من توفر المقاييس الواضحة والشفافة.
تعاسة الشعوب
في النهاية ستبقى تظاهرة أيام قرطاج المسرحية شوكة في حلق أعداء الحياة والمتباكين على الظلامية والسواد والمبصرين للفن من تحت الثقوب السوداء والمتسابقين المندفعين الدّافعين إلى تدمير كل الرؤى الفنية الإنسانية للحياة وللعالم. كنا نتمنى أن يتغير ويتطور الطرح المسرحي بعد الانتفاضات الشعبية التي هزت العالم العربي والتي خلناها ثورات وعواصف ستغير وتساهم في إنتاج بدائل فنية طليعية ومتقدمة، لكنها إلى حد الآن لم تقدم ولم تفرز بدائل فكرية وجمالية وفنية حقيقية وعميقة مواكبة ومحتكة بمشاغل الشعوب وهمومهم وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل، بل وجدنا أن المثقف عامة والمسرحي خاصة انزاح عن مساءلة هذا الحدث الذي هزّ العالم العربي، والذي وددنا أن نراه خلال أيام قرطاج المسرحية هو مثقف وفنان من نوع آخر: فنان متسائل وناقد لما حدث ومتفاعل معه بأسلوب فني راق ومحرج للعقول ودافع إلى التفكير، ومتمرد على التسطيح والتعاسة التي أصابت الشعوب العربية. لكن للأسف تتواصل نفس الممارسات التي ينتهجها ثلة من المثقفين الانتهازيين الذين يتحلقون حول كل تظاهرة لنهب ما يمكن نهبه واغتنام ما يمكن اغتنامه أما الحقيقة فهي على رأي كونديرا “في مكان آخر”، المسرح كذلك والفن عموما في مكان آخر.
______
*العرب