صديق الرصيف


عبد السلام عطاري*


خاص ( ثقافات )
منذ سنوات وأنا أعبر ذات الطريق إلى عملي شمال المدينة، منذ سنوات وذات الطريق التي تَعربش الياسمين أسوار البيوت على جانبيّ الطريق، أعرف كل ياسمينة باسمها وأعرف عُمر كل واحدة منها، أعرف كيف كانت ألوان الأبواب التي تغيرت بفعل الوقت وبعوامل نقع الغبار الذي كانت تثيره مجنزرات الغول حين تعبر وتخدّ غرزتها في خدّ الأسفلت فتثير سوادها على أسوارها وأبوابها وشرفاتها، أعرف حجم زهرة “المجنونة” التي تعربشت على عامود الكهرباء، العامود الوحيد الذي يضيء ليل الطريق وأنا عائدة من عملي الذي ينتهي بعد الغروب بقليل.
صباح كلّ يوم نلتقي، هو إلى عمله جنوب المدينة، وأنا كما قلت إلى شمالها، في الذهاب أكون على يمين الرصيف، وهو على يساره، وفي العودة تعكس الحالة حالتها؛ هو على يمين الطريق، وأنا على يسارها، تمامًا كأننا تقاسمنا دون إعلان ودون اتفاق مسبق عن مسير كل واحد منّا.
سنوات تَعبرُ والمشهد يتكرر والياسمين يزداد حجمه و”المجنونة” الوحيدة تتواصل وتتسلق جسد العامود الناعم صاعدة للضوء، كل هذه السنوات لم تغير منّا شيئًا، وإذ تغير كل شيء على جانبيّ الطريق؛ أطفال الروضة بدلّوا ملابسهم بملابس المدرسة، كبروا وصاروا، ومضوا بعمرهم ولبسوا ملابس أنيقة؛ قمصان وسروايل غير لون وغير “موديل”؛ الصبايا ذوات الجدائل الكستناء والحناء والشقراء، كبرن وتوردّت أجسادهن، كل شي هناك تبدل وتغير، إلاّ نحن لا شيء تغير من ملامحنا سوى أنه وضع على عينيه الواسعتين الجميلتين نظارةً، رُبما عَجز نظره مع خطوات الطريق التي عبرناها.
منذ سنوات في الذهاب والأياب، يذهب إلى عمله الذي لا أعرفه، وأنا أذهب إلى عملي الذي لا يعرفه، كما لم نعرف أسماء بعضنا، ولم نقل لبعضنا صباح أو مساء الخير، غير أننا كنا نلتقي بالسلام بعيوننا، نبتسم ابتسامة خفيفة بعد أن تطور اللقاء بعمر السنوات على جانبيّ الرصيف. 
عشرون عامًا ونحن نلتقي ونتبادل التحية بالعيون، بالعيون فقط، لغة العيون الخرساء عالية في القلب صرخاتها.
عندما افتقدته يومًا بعد يوم، لم يعبر الطريق كالعادة، قلت ربما كان يكبرني بأعوام فتقاعد عن عمله، ربما هاجر وغدر بي وغدر بالعمر، بالرصيف، بالمجنونة، بضوء عامود الكهرباء الوحيد، بالياسمين، بالأطفال الذين كبروا وصارت اسماؤهم على يافاطات العمارات… ربما.
كعادتي عبرت الطريق طوال تلك السنوات ولم أُمعن النظر بغير الياسمين والمجنونة والأطفال الذين كبروا ولم ننتبه للسور الطويل الذي كان يتكئ عليه كل زرع طال ساقه وعطره ووقف على بوابته أمهات انتظار حافلات المدرسة، لم أنتبه للسور، لم أنتبه إلا حين قلت لكم هذه الحكاية، كانت صورته الكبيرة بحجم السنوات الكثيرة تنعى رحيله!!!
ليتني سألته عن اسمه قبل أن اقرأَهُ على تلك الصورة.
ليتني عبرت مرة رصيفه الصباحي كي يعثر كتفي بكتفه ليقول لي: آسف لم أنتبه لك، لأحفظ تلك الجملة بنبرةِ صوته.
___________________
*شاعر وكاتب من فلسطين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *