محمد العباس
فوز رواية الجامايكي مارلون جيمس «لمحة تاريخية عن سبع جرائم» بجائزة المان بوكر لهذا العام، يعني في ما يعنيه أن القارئ بمعناه الأدبي لم ينهزم قُبالة (المتصفّح) كما يُشاع في عصر المنتجات التكنوثقافية، فالرواية بصفحاتها الستمئة كانت محل اهتمام القراء حتى قبل فوزها، كما تشهد مواقع الرصد القرائي مثل أمازون، وغود ريد، وكندل، وغيرها من المواقع التي ازدحمت بالتعليقات، التي تدلّل على أن الرواية خضعت بالفعل لقراءات جادة وفاحصة، بالإضافة إلى ما يحتويه موقع اليوتيوب من لقاءات مباشرة بين الكاتب والقراء في مناسبات مختلفة، حيث صرح في أحد تلك اللقاءات، وفي مناقشته للرواية، بأنه حذف منها ما يقارب العشرة آلاف كلمة.
كل ما يقال عن موت الرواية الثقيلة مقابل خفة (النوفيلا) تحت عنوان إيقاع اللحظة المتسارع، لا يصمد أمام حقيقة المنتج الثقافي الذي يفرض نفسه في سياق الحياة الثقافية، حيث يستقبل المشهد الثقافي روايات ضخمة تجد صداها عند القراء وفي محفل الجوائز، كذلك ما يروّج له من موت القارئ التقليدي على إيقاع صعود المتصفّح النتّي، لا يمكن التسليم به في الحقل الأدبي فالقارئ، سواء كمستهلك، أو كمنتج ثانٍ للنص، كما نادت بذلك نظريات التلقي الحديثة، ما زال موجوداً ومتربصاً بالروايات الأدبية المشغولة بعناية فنية وموضوعية، وليس طول الرواية أو قصرها هو ما يشجعه على مطالعتها، بل ما تختزنه من قيمة مضمونية وجمالية، حيث بشرت جماليات التلقي بجمهور جديد، وقارئ نوعي يختزن خبرات الوعي الناقد، كما كانت هي ـ أي تلك النظريات – محاولة لتجديد تاريخ الآداب، بتعبير ياوس، وإعادة تشكيل أفق الانتظار.
الروايات الروسية الملحمية – مثلاً – بأجزائها الخماسية والثلاثية، التي تصل إلى آلاف الصفحات، أو ما يُعرف بالروايات الأنهار، ما زالت تحظى بمقروئية واسعة، سواء من قبل قراء الجيل الجديد، الذي يحاول التعرُّف على كلاسيكيات الرواية العالمية، والتعلّم من قيمها الفنية والإنسانية، أو الجيل القديم الذي يستعيد من خلال تلك القراءات إيمانه بالفن الروائي، حيث تعاد طباعة ذلك الإرث الأدبي بين آونة وأخرى لتلبية حاجة القارئ، الذي يؤكد بدوره من وراء تلك المتابعة على وعيه بما يمكن أن يؤديه الخطاب الروائي، بمعنى أن الرواية الأصيلة إنما تُكتب لتخلّد، من خلال القارئ، باعتباره أهم أدوات ووسائل التخليد، فهو المروي له، والمسرود له، والمكتوب له، والمرسل له.
القارئ لا يخلّد الروايات العظيمة وحسب، بل هو ركن من أركان ظهور الرواية، كما قال بذلك إيان وات في كتابه «نشوء الرواية»، حيث توقف كثيراً عند الصلة بين طبيعة وتنظيم جمهور القراء وبين ولادة الرواية، كما ركز في مجادلته على اتساع قاعدة القرّاء، وربط ذلك المفصل مع جملة من العوامل الاقتصادية والدينية والاجتماعية، التي كانت تتقاطع حينها ببروز أنماط سردية أكثر حداثة وتعقيداً، من قبل الروائيين الطليعيين، كاستجابة طبيعية إلى ما عُرف بسلطة القارئ الذي يجيد الجولات الاستدلالية في غابة النص، بتعبير إيكو.
لا تُكتب الرواية أصلاً إلا من أجل قارئ، وهذا هو بالتحديد ما أدخل الروائي مع القارئ في ميثاق تواصلي كان له أثره في رسم الخط البياني للرواية، أي تشييد رواية تنهض على بناء موقع القارئ فيها، إلى الدرجة التي يمكن بموجبها القول إن تاريخ الرواية هو تاريخ قارئها، ولذلك يميل بعض الباحثين المتأملين في صيرورة الرواية إلى التأكيد على دور المرأة كقارئة، حيث أسهمت في تعزيز الكم الروائي من خلال مطالبتها بالمزيد من الروايات، كما أثرت في المنحى الكتابي قبل أن تتحول هي إلى روائية.
مع ظهور السينما الروائية وصعودها كلون إبداعي استحواذي تطفّلت على الرواية، حيث تم تحويل عدد من الروايات إلى أفلام، وبعد اكتمال أدواتها ظهرت دعوات تنادي بكتابة نصوص معدّة للشاشة مباشرة، بدون المرور عبر الوسيط الروائي، أي إعداد مادة روائية مكيّفة وفق حاجات السينما كخطاب بصري، وبالفعل صارت الجامعات تخرّج كُتّاباً متخصصين في الكتابة الدرامية، كما تم رصد جوائز للنصوص المعدّة للسينما، إلى جانب نصوص الأفلام المقتبسة من روايات، حيث صار للكتابة السينمائية نجومها، بما في ذلك (سينما المؤلف) التي استغنت عن الرواية بمحكي الذات في حده السيري، إلا أن ذلك كله لم يؤثر في سطوة الرواية على السينما، إذ لا تزال الروايات هي المصدر الأهم لصناعة الفيلم، والسبب هو القارئ، الذي يُراد له أن يشاهد الرواية التي قرأها وأُعجب بها مؤفلمة.
لكل صناعة إبداعية أو ترفيهية يوجد اليوم ما يشبه الراصد لما يستهوي القراء من الروايات، ليتم تحويلها إلى مادة مرئية، فالسينما لا تلتقط الروايات الفائزة بالجوائز وحسب، بل كل ما يتم استخلاصه من التجربة القرائية، سواء من الروايات القديمة أو حديثة الصدور، حيث يشكل القارئ ركيزة مهمة في تقويم الأعمال، وهي مهمة على درجة من التعقيد لا توكل لأولئك الذين يطلون على مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات عابرة ولا مسؤولة، ولا من صفحات مراجعة الكتب مدفوعة الثمن، إنما عبر قارئ نوعي يؤدي دور الناقد بكفاءة، وهذا فصيل من القراء حاضر عبر المدونات، وموجود في مواقع توزيع الكتاب التفاعلية، إلى جانب ما تطرحه الصفحات الثقافية التي يُعتد بها، أي القارئ الذي يجيد امتصاص رحيق المعنى من النصوص. لم يكن من المبالغة وصف اللحظة التي نعبرها بعصر القارئ، خصوصاً أن تلك المسافة الشاسعة ما بين منتجي النصوص ومستهلكيها قد تقلصت إلى درجة التلاشي، وصار بمقدور الروائي من خلال ذلك التقارب الانتباه إلى ما تسميه كاترين بيلسي (الحس العام)، ليس بمعنى التوافق معه والاستجابة له، ولكن من منطلق التعامل الواعي مع ما يمليه وعي القارئ، فالروايات التي كانت تكتبها ذوات شبه أرستقراطية أو من منظورات طبقية تضاءلت اليوم، مقابل الرواية التي تكتبها ذوات تنتمي إلى طبقات وشرائح عادية تتعامل مع اليومي والهامشي والاعتيادي.
منذ أن ظهرت الرواية كوريث للملاحم القديمة، وكتعبير عن ملحمة العصور الحديثة، وهناك رهان على أن دورتها ستكون على درجة من القصر، فبالإضافة إلى عدم الترحيب بحضورها، لازمتها تنبؤات بحتمية الانطفاء، بما في ذلك إدموند غونكور، الذي انطبعت أهم جائزة للرواية في فرنسا باسمه، حيث قال بأن «الرواية جنس مستهلك ومستنفد، وقد قال كل ما عنده»، وقد كان ذلك تصريحاً استباقياً بحتمية اضمحلالها المبكر، ورهاناً مبيّتاً على يأس القارئ، إلا أن القارئ الجديد خيب تلك التوقعات، بما تزوّد به من خبرات لغوية ولا لغوية من خارج النص، حيث استطاع التعامل بوعي مع كل تعرجات خطها البياني، وتأسيس ميثاق قراءة مغاير، ينهض على مجادلة القارئ داخل النص، وهكذا تم الاعتراف به كسلطه جديدة، كما تم الإقرار بالطابع النشيط والخلاق لفعل القراءة، الأمر الذي حتّم على الروائيين استدعاء القارئ ككاتب ضمني، وهذا هو سر بقاء وتأثير الرواية.
——-
القدس العربي